الأحد، 1 يونيو 2014

ولادة شاعر عربي





الشّعرُ كائن جماليّ علاقته وثيقة بالإنسان العربيّ؛ إذ تتناغمُ إيقاعات ذلك الكائن مع نبضات فؤاد ذلك العربي.
وإذا أمعنا النظر في الذاكرة القديمة لتلك العلاقة سنجد أنها ملأى بمشاهد تجسّد شدّة الوثاقِ بينهما سنرى ذلك العربي السجين الذي قال أبياتاً فعفا عنه الوالي، أو ذلك العالمُ الذي ينظم شرحه في أبيات مموسقة ليحفظها التلاميذ أو أبيات بسيطة تشعل حرباً لسنين طويلة، أو عدد الشعراء الذين ظهروا في العصور الماضية ورسموا أجمل لوحات الحب ولونوها بحكمهم الخالدة ولا تمل أعيننا من رؤيتها وكأنها صور متحركة كل يوم تتغير بصورة أجمل عن سابقتها لجمالها الأخاذ ولحكمتها البليغة.. وغيرها من المشاهد الكثيرة؛ لكن الذاكرة العتيقة لذلك الكائن الجمالي الأخاذ لم تسعفهُ في مقابل أجناس أدبية أخرى كالرواية، انحسر حتى غصّت مئات المقالات بكلمتين «وهميتين»: موت الشعر! 

المتأمل في ذلك الانحسار الخانق للشعر سيجد أن أهم أسبابه هو: غياب الشاعر الحقيقي المستقل المؤمن بقضيته، وما أحوجنا إليه اليوم في هذه الأجواء المتوترة الحزبية والخلافات الطائفية المقيتة والاصطفافات الفكرية المنعزلة عن الحوار المتراشقة بالألفاظ وعبارات التخوين، ونلاحظ أن معظم الأطراف الفكرية العربية المتنازعة تتحد وتصفق عند بيت نزاري رقيق أو عند إيقاع أسطوري مدهش لدرويش أو عند عبارة ساخرة لاذعة مطرية! 

والمتأمل في أولئك الشعراء الثلاثة - على سبيل المثال لا الحصر - نستنتج أنه يجمعهم مثلث وصفي أضلاعه:

١- الاستقلالية بشموليتها: نزار مستقل وعانى من ملاحقة السلطات والمنع، ومحمود لم يقبل بمنصب سياسي كان مستقلًا عن السياسة، وأحمد مطر كانت نتيجة استقلاله منفى وصمت طويل وتلك أمثلة على استقلاليتهم الشاملة.

٢ - الإيمان بقضية ما حتى اللحظة الأخيرة: نزار كانت قضيته المرأة حتى لُقّب بشاعر المرأة، ومحمود كانت أنفاسه: قضية فلسطين وأحمد مطر شاغب الحرية المُصادرة في العالم العربي وصارت قضيته الأولى.

٣ - الدهشة في العرض: نزار أدهشنا بتصاويره وجعل اللغة الشعرية عذبة ورقيقة ومن تفاصيل حياتنا اليومية، ومحمود (أنسن) قضيته بشعره الأسطوري الفريد، وأحمد لوّح بلافتاته الإيقاعية الساخرة وعرف الناس قضيته.

حتى وإن اختلفت الآراء حول طريقة عرضهم لقضاياهم؛ إلا أن ذلك المثلث الوصفي الاستنتاجي الواضح كوضوح الشمس لا أحد يستطيع أن يغطيه بغربال التشكيك به أو إنكاره عنهم. 
وعلى الرغم من وجود آلاف الشعراء العرب اليوم إلا أنه من النادر أن نجد فيهم تلك الصفات الثلاث ربما نجدُ فيهم الضلع الأول والثاني؛ ولكن الضلع الذهبي الأول نادر وثمنه باهظ جداً.

متى سيولد ذلك الشاعر العربي الذي يوحد تلك الاصطفافات الفكرية المتنازعة عند كلماته المدهشة الرائعة ويعزف على وترِ قضية إنسانية يؤمن بها حتى اللحظة الأخيرة؛ وليرسم اللوحات الجميلة ويزرع زهور الأمل في الأرجاء وينثر عبير الفرح في الأزقّة والطرقات وينعش نبض اللغة ويرشّ رذاذ التفاؤل في الهواء ويعيد شدّ تلك العلاقة الوثيقة بين إيقاعات الكائن الجمالي ونبضات قلب الإنسان العربي بدلاً من تلك الخلافات والاصطفافات المقيتة ودخان التمزق والتراشق بالألفاظ..؟
إذا توافرت تلك الصفات الثلاث أزف إليكم بشرى ولادة شاعر عربي حقيقي! 



*نشر في مجلة اليمامة بتاريخ : 24 أبريل 2014م


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق