الأحد، 1 يونيو 2014

حوار: الكاتب الأستاذ شايع الوقيان .. وشؤون الفلسفة العربية .. حاوره: حمد الدريهم



يُعدّ الكاتب الأستاذ / شايع الوقيان من أبرز الكتّاب السعوديين الذين اهتموا بالكتابة الفلسفية عبر مقالاته الإسبوعية في صحيفة عكاظ ، وهو عضو مؤسس للحلقة الفلسفية بالنادي الأدبي بالرياض وله مؤلفان :


١- الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا .
٢- قراءات في الخطاب الفلسفي .


وله العديد من المؤلفات المشتركة منها :
أوراق فلسفية بجزئيه الأول والثاني  الصادر عن النادي الأدبي بالرياض .


ذهبنا معه  في هذا الحوار الماتع  إلى مسائل وقضايا فلسفية  مثل ما بعد الحداثة ، و مدى تأثير الربيع العربي على النتاج الفلسفي  و عن رؤيته لمستقبل الفلسفة في العالم العربي و المملكة العربية السعودية بشكل خاص وغيرها من القضايا الراهنة   .


فإليكم هذا الحوار :


س١ / يقول برتراند راسل :  بأن العلم هو ما تعرف والفلسفة هي ما لا تعرف .. فهل نستطيع  أن نُعطي تعريفا آخر للفلسفة ؟


ج/ كان راسل في معرض حديثه ينتقد بنوع من السخرية ويمكننا أن نعيد صياغة مقولة راسل بطريقة أكثر جدية ونقول بإن العلم جواب والفلسفة سؤال. هنا يبرز الدور العظيم الذي يمكن للفلسفة أن تلعبه في حياة الفكر. هل يمكن إعطاء تعريف آخر للفلسفة؟ بالطبع وقد حصل مرارا ويحصل اليوم كثيرا. لكن برأيي أن "التعريف" لا يكشف عن حقيقة الفلسفة، فالتعريف بالعادة مرتبط بالمذهب الفلسفي الذي ينطلق منه صاحب التعريف وهذا يجعله بالضرورة تعريفا غير جامع. كما أن التعريف ذو طبيعة استقرائية، أي إنه يتعلق بالوجود الفعلي للنص الفلسفي لكنه لا يستطيع القبض على احتمالات النص وممكناته. دائماً ما أُسأل عن تعريف الفلسفة، وأجد في نفسي حرجا من الجواب، لأن السؤال والجواب كليهما لا يغنيان عن المرء شيئا. وكنت أجيب أن أفضل طريق لمعرفة ماهية الفلسفة تكون بممارسة الفلسفة نفسها. وقد يكون فجاً لو قلتُ إن الفلسفة لا يمكن أن يعرفها بشكل صحيح إلا الفلاسفةُ. وهذا تنويع على الفكرة السالفة بأنه من اللازم ممارسة التفلسف حتى نلج إلى عالم الفلسفة.




 س٢/ في تاريخنا الثقافي و الفكري هل نستطيع أن نحدد أسماء بعينها ونطلق عليها كلمة فيلسوف ؟


ج٢/ طبعا هناك فلاسفة عرب وإسلاميون في تاريخنا الطويل، بدءا من المتكلمة والمعتزلة كالعلاف والنظام وغيرهما ومرورا بالفلاسفة التقنيين كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وانتهاء بالفلاسفة الأكاديميين كزكي نجيب محمود وعثمان أمين ويوسف كرم وعبدالرحمن بدوي وعزيز لحبابي وطه عبدالرحمن. يضاف إليهم فلاسفة ما بعد الحداثة كعلي حرب وعبدالسلام بن عبدالعالي وفتحى التريكي والسيد ولد أباه ومحمد البنكي وشوقي الزين. وأنا أميل أيضا لإطلاق صفة الفيلسوف على طلاب الفلسفة الذين يمارسون الفلسفة فعليا وبصورة إبداعية ولدينا في منطقة الخليج وخصوصا السعودية نهضة شبابية من هذا النوع.
في العصر الحديث لم تعد هناك حدود "أجناسية" واضحة بين الفلسفة والأدب، لذا فيمكن اعتبار منظري الأدب وليس نقاده فلاسفة بهذا المعنى كالغذامي وصلاح فضل والبازعي والمسدي وجابر عصفور وغيرهم.




  س٣/ في المملكة العربية السعودية برز مؤخرا تيار فلسفي صاعد ؟ بماذا تفسر ذلك البروز ؟
 



أعتقد أن الانهمام الفلسفي الذي نلمسه مؤخرا في بلادنا يعد نوعا ما نتيجة لتطور تاريخي واجتماعي سابق. ففي الدولة الحديثة بدأت نهضة في الشعر والكتابة الأدبية والصحافية مع محمد حسن عواد وشحاتة و وعبدالله عبدالجبار وعبدالكريم الجهيمان وغيرهم.. وتطورت إلى بروز ما يسمى بالحداثة. وهي حداثة أدبية رادها الغذامي والسريحي والثبيتي والصيخان وغيرهم. الصراع بين أدباء الحداثة وأدباء القدامة بدأ أدبيا حقا، لكنه سرعان ما تحول لسجال آيديولوجي بعد دخول رجال الفكر الصحوي على الخط. الصراع بين الحداثة والصحوة تحول بعد أحداث سبتمبر وتفجيرات الرياض إلى صراع جديد برز فيه فكر تنويري ليبرالي مسلح بمفاهيم وقيم جديدة، مع بقاء الصحويين بوصفهم الطرف المضاد. إذن لدينا حقبتان من الفكر الجديد هما الحداثة الأدبية والليبرالية الفكرية. الثاني تعتبر أقرب إلى الفلسفة لأنها تتناول مفاهيم فلسفية راسخة تحديدا في الفلسفة السياسية والاجتماعية، لذا فلا غرابة أن يكون تعرّف الشباب على فولتير وروسو وجون لوك سابق على معرفتهم بكانط وهيجل وهايدجر. لأن الأوائل كانوا يتناولون قضايا مباشرة كالتي نتعرض لها اليوم كالمجتمع المدني وتجديد الفكر الديني والحرية والمساواة ونحوها.لذا من فضائل الليبرالية السعودية أنها قادت مباشرة إلى التعرف على الفلسفة. إضافة إلى دور التقنية والإنترنت في تسهيل الحصول على مصادر الفكر الفلسفي.




 س٤ /  يقال بأن : (كل إنسان فيلسوف بطبيعته)  ؛ بالرغم من ذلك تخشى المؤسسة الرسمية  في السعودية  تدريس الفلسفة لماذا برأيك  ؟ 


لا أعتقد أننا يمكن أن نأخذ عبارة ( كل إنسان فيلسوف بطبعه) على نحو جاد. أقصد إنها لا تتجاوز الإشارة إلى كون الإنسان ذا عقل. والعقل بطبعه لا يكون عقلا ما لم يفهم ولن يفهم حتى يسأل ويبحث. من هنا نجد أن الطفل أكثر تفلسفا إذا أخذنا العبارة أعلاه بجدية من الإنسان الراشد التقليدي. فالطفل يسأل بجدية عن الظواهر وعن كل شيء يحدث أمامه. ولو شئنا الاقتراب من الدقة أكثر لقلنا ( كل طفل بطبعه فيلسوف). الإنسان العادي يرى أن أسئلة الطفل سخيفة ولا غرابة أيضا أن يعتبر أسئلة الفلاسفة سخيفة أيضا.. وهنا يتلاقى الطفل مع الفيلسوف في كونهما ينظران للأشياء المألوفة بنظر غير مألوفة.
امتناع المؤسسة التعليمية في السعودية عن تدريس الفلسفة ليس له سوى سبب واحد وهو أن المؤسسة تعبر عن الفكر السلفي، والفكر السلفي ذو موقف عدائي من الفلسفة ليس لأنه أحاط بالفلسفة علما بل لأن مشائخهم القدماء حاربوا الفلسفة كابن تيمية وابن القيم .


  س٥ / أيهما أكثر فاعلية وتأثيرا ، الفلسفة خارج المؤسسة الرسمية أم داخلها ولماذا برأيك  ؟ 

ج٥/ عربيا، الفلسفة أكثر فاعلية خارج إطار الأكاديميا، لكن في دول أخرى كبريطانيا وأمريكا واليابان وألمانيا فللأكاديميا دور فاعل رغم أنها أحيانا تقف عائقا أمام بعض التجديدات. من هنا نتفهم كيف أن الفلاسفة الفرنسيين تحديدا الذين يمتازون عن غيرهم بالروح الثورية الملازمة لهم يرتابون كثيرا في الأكاديميا.
 

   س٦/ ما هو تقييمك لتجربة الحلقة الفلسفية بالنادي الأدبي بالرياض ومدى التفاعل معها من المجتمع و من فئة الشباب خاصة ؟ 





ج٦/ حلقة الرياض الفلسفية تمتاز بأنها علقت الجرس كما يقال. والتفاعل فيها مثر والحضور يزداد نوعا ما.. وأعتقد أن لها دورا في نشر الفكر الفلسفي في البلد أو على الأقل في الرياض. المجتمع غير متفاعل معها ولا يعرف عنها شيئا. فقط فئة من الشباب المهتمين. المجتمع السعودي لا زال مرتهنا لخطاب واحد هو الخطاب السلفي بكل تمظهرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكل ما ليس سلفيا فلن يكون له حضور اجتماعي مع استثناءات قليلة تتعلق بالأنشطة الترويحية كالرياضة والموسيقى والسينما. ورغم أن حفلات الموسيقى ودور السينما معدومة تقريبا داخل حدود البلد إلا أن تفاعل المجتمع معها قوي جدا والحضور الكثيف للسعوديين في دبي والبحرين ومصر دليل على ذلك.
مع ذلك، فالفلسفة على مدى تاريخها الطويل ليست بذات شعبية. وحتى منذ الإغريق فقد كان الفلاسفة عرضة للسخرية من الناس، ويشير هيجل في رسالة إلى أخته إلى أن عدد طلابه في إحدى المحاضرات لم يتحاوز الأربعة، رغم أن هيجل كان في وقته مالئ الدنيا وشاغل الناس.



 
  س٧/ ما مدى تأثير أحداث الربيع العربي  على النتاج الفلسفي العربي ؟
 


الربيع العربي كان ولا يزال حدثا دراميا غريبا على المثقف العربي وربما يكون ظاهرة فريدة من نوعها على الأقل في العصر الحديث، حيث لم يشهد العالم العربي ثورات شعبية خالصة بمثل هذه السعة والحدة. ولا أخفيك أن الربيع العربي كشف عن تهافت كثير من المفكرين والأباء الذين تكشفت سذاجتهم البالغة في التعاطي مع الحدث؛ أقصد إن الكثيرين نسوا الطبيعة المغايرة للمجتمع وللتاريخ والتعقيد الهائل لهما التي تجعل المقارنة بينهما وبين الحوادث الجزئية والفردية أمرا بالغ الغرابة. مثلا، هناك من غلب عليه الظن أن مشاكل البلدان التي ظهرت فيها الثورات ستحل بمجرد سقوط النظام القديم. وهذا خطأ. فنتائج الربيع العربي لن تظهر في سنة أو ثلاث أو حتى أكثر. فالظواهر الاجتماعية الحدية لا تستبين ملامحها إلا بعد انقضائها وبقاء أثرها.
ما أريد الخلوص إليه هو أن الربيع العربي وبسبب من دراميته التي تجعله "فعلا مستمرا" لا يسمح بالتنظير والتدبر ليس له أثر حالي على النتاج الفلسفي والأدبي.. وسيظهر الأثر لاحقا متى ما تحقق النجاح للحراك الديمقراطي الذي لا يزال يواجه عوائق ربما لا يكون له بها قبَل.


         


  س٨/ نُقد التراث العربي والإسلامي على أيدِ  فلاسفة عرب  وبعض فلاسفة الغرب .. ما الفرق بينهما و ما تقييمك لهاتين التجربتين ومدى تأثيرهما الحضاري  ؟
 




مشروع نقد التراث أدى إلى نتائج رائعة وغنية حتى الآن. وأعتقد أن الحراك الفكري الذي تشهده السعودية اليوم والذي شهدته بلدان أخرى بالأمس كان بسبب هذا التوجه النقدي الجديد. وقد أشرت في غير موضع إلى أن نقد الجابري وأركون وحنفي وجعيط وغيرهم للتراث أثر بشكل عميق في المتلقي السعودي كاتبا أو قارئا.
برأيي أن أول من بدأ النقد الجاد للتراث في العصر الحديث هم رواد النهضة العربية كفرح أنطون وشبلي شميل وأحمد لطفي السيد والكواكبي. لكن نقدهم رغم ذلك لم يكن شاملا بل اقتصر على جوانب التراث السياسي تقريبا. وكان أثرهم في تعريف القارئ العربي بمذاهب فلسفية سياسية لم يكن له بها علم. النقد الشامل جاء تقريبا مع جهود طه حسين ولويس عوض والعقاد والمفكرين القوميين، ومع ذلك فقد كان نقدهم يرمي إلى التأسيس لا التفكيك. لذا نجدهم يهدفون من نقد وتحليل التراث إلى إيجاد شرعية ما للنظريات المحدثة. كما أنهم متأثرين بالخطاب النقدي الغربي أو الاستشراقي. وجهود المستشرقين كانت عظيمة في تحليل الفكر الإسلامي القديم واستظهار شخصيات ومذاهب تاريخية كانت مغيبة كابن رشد وابن خلدون وغيرهما. إلا أن الخطاب الاستشراقي يظل خطابا غربيا ولا علاقة له بالواقع العربي. ومن هنا جاء نقد إدوارد سعيد له وتفكيكه للنزعة المركزية التي تشكل بؤرته الدلالية. جيل السبعينيات وما تلاها وهو جيل الجابري وحنفي وأركون وطرابيشي وطيب تيزيني ومحمد جابر الأنصاري وغيرهم كان جيل النقد بمعناه الحقيقي. أقصد إنه نقد للتراث من داخل التراث ولكن على أرض الواقع العربي وهمومه. وقد مارس نوعا من القطيعة المعرفية مع خطاب الاستشراق خصوصا بعد نقد إدرواد سعيد وما بعد الكولونيالية له وأيضا كتاب هشام جعيط أوربا والإسلام. هذا النقد العلمي للتراث – وإن غلب عليه أحيانا بعض التحيزات القومية أو المذهبية- لا زال فاعلا اليوم. وأعتقد أن الليبرالية السعودية تدين في ظهورها لهذا النقد .



  س٩ /  ذكرت في كتابك الفلسفة بين الفن والأيدولوجيا بأن ((العولمة كواقع عصري هي إرث الإنسانية الذي انتهى في صيغة  أوروبية ؛مع نضوج العقل الأوروبي وإنضاجه لهذا الإرث))  هل تمزقت تلك العولمة ودخلنا إلى زمن ما بعد العولمة ؟ 


هناك ميل في الفكر العالمي إلى الما بعديات. وبرأيي أن هذه المابعديات لا تعبر بدقة عن تحقيب تاريخي-فكري أصيل. صحيح أن هناك فروقا بين ما يسمى الحداثة وما بعد الحداثة مثلا، لكن لا مبرر لاستعمال تلك الألفاظ القطعية لأن الما بعد ليس سوى تطوير طبيعي وتلقائي لما قبله. فالحداثة وما بعد الحداثة يمكن جمعهما في إطار أشمل وهو الحداثة ذاتها. من هنا يتضح أن الفرق ليس جوهريا ولا حتى فرق في الدرجة ولكنه فرق في الأدوات النقدية وفضاء البحث ذاته؛ فالما بعد حداثيين عاشوا في عصر التطور التقني والمعلوماتي والتواصل الحضاري مما أعطى لأفكار الحداثة أبعادا عالمية مع بعض التغيرات التي تلزم عن هذا التوسع.. أقصد أن الحداثة فعلا كانت خطابا أوربيا، لكنها في إطار الما بعد صارت خطابا كونيا وهذا يفسر غياب فلاسفة غير أوربيين في الأولى وحضورهم في الأخرى كإدوارد سعيد وإعجاز أحمد وهومي بابا وأمارتيا صن وغيرهم.
من هذا المنطلق فالعولمة وما بعدها هما فكرة واحدة ولكن ربما اختلفت الأدوات واتسع الميدان. وبرأيي أن الفكرة الأصلية للعولمة تدل لغويا على العالمية. ومن هنا فأي دعوى لما بعد العالمية لن تكون سوى إقليمية أو جهوية. شخصيا أميل لاستخدام العولمة بل إنها هي ذاتها التي تعبر عن تجاوز الفكر والممارسة للإطار التاريخي الغربي وانفتاحه على فضاءات جديدة.




  س١٠/ إلى أين يمضي الخطاب الفلسفي للمشاريع الفلسفية  .. هل توقف عند خطاب ال(مابعد) ؟  


الفلسفة لها "ما بعد" وهو التفكيك الديريدي والفوكوي والدولوزي. أو "النيتشوية" على الإجمال. النيتشوية هي تعبير عن الشكية العارمة وتدمير أسس التفكير المنطقي واللغوي. ورغم الإنجازات العظيمة لهذه المدرسة إلا أن هناك شعورا اليوم بالتململ منها. وهذا التململ يستعيد أطروحات بعض الفلاسفة الذين كان لهم موقف حذر من "ما بعد الحداثة الفلسفية" كهابرماس وريكور في الفلسفة القارية ومايكل دوميت وفريدرك جيمسون مثلا في الفلسفة الأنجلو أمريكية. هذا التململ يتم التعبير عنه في صورة نقد لعجز ما بعد الحداثة عن إقامة نظريات في التواصل مثلا أو في التأويل ؛ بل حتى في السياسة تعرضوا لنقد إدوارد سعيد لانسحابهم خشية الوقوع في الأدلجة. وكذلك انتقد فوكو الذي دعا إلى انعزال المثقف والتخلي عن النموذج السارتري؛ أي نموذج المثقف الملتزم بالقضايا الإنسانية والدولية.

ما بعد الحداثة فلسفة تبرهن على شيء واحد وهو أننا لا نستطيع البرهنة على شيء. وهذه من مفارقاتها. وقد تناولت في كتابي "الفلسفة بين الفن والآيديولوجيا" موقف ما بعد الحداثة وأسميته أزمة الوعي بالأزمة. بمعنى أن خطاب ما بعد الحداثة بطبيعته سلبي (نقدي) والنقد بالعادة يتناول الوضع السائد حتى يقضي عليه فإذا انتهت مهمته تكشفت أزمته، فلا يجد بدا من ممارسة نوع من النقد الذاتي الراديكالي والذي سيفضي به في النهاية إلى تجاوز نفسه والتوجه نحو مرحلة بنائية جديدة، وهذا تقريبا ما يحدث اليوم. فالفكر (والممارسة عموما) لا يمكن أن يؤدي إلى ما يريم إليه ما لم ينطو على وعي ذاتي ووعي بالآخر، فالوعي الذاتي مستحيل بدون الوعي بالآخر والعكس صحيح، لكن معضلة ما بعد الحداثة أنها تنكر ثنائية الأنا والآخر، ومن ثم فهي خطاب لا هوية له. وهم يقرون بذلك ويرفضون مفهوم الهوية لدرجة أن رواد هذه الحركة لم يعطوا تعريفا لها ولا حتى اسما إيجابيا ( فالما بعد ..) ليس اسما. خطاب ما بعد الحداثة الفلسفي يمضى إلى شيء آخر سواه، وهذا ما سيجعل له هوية واسما جديدا أو على الأقل اسما متفائلا لا ينطوي على ما بعد أو نهاية أو موت ... إلخ.



 س١١/ هل أصبحت النظريات الفلسفية  في العصر الحديث خاضعة لمتغيرات واكتشافات العلم وهي التي تتحكم بها  ؟
 


ج١١/ في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع العشرين ظهرت في الفلسفة مدرسة تدعى بالوضعية المنطقية. في الواقع أن الوضعية بدأت قبل ذلك في علم الاجتماع مع أوغست كونت وسنسر ودوركهايم. والوضعية بشكل عام تدعو إلى جعل الفلسفة علما. ولما فشلت دعت إلى جعل الفلسفة خادما للعلم كما كانت خادما للاهوت إبان العصور الوسطى الإسلامية والمسيحية. أبرز من انتقد هذه النزعة العلموية التي تنكر أصالة الفلسفة دلتاي وهوسرل وفلاسفة الحياة عموما كبرجسون وكيركجارد. وتابع هايدجر وغادامير نقد هذه النزعة. اليوم تكاد أن تتلاشى. فالفلسفة لم تعد خادمة للعلم ولكنها مع ذلك تتأثر به. كما أن العلم ذاته قد تأثر بالفلاسفة وخصوصا المناطقة. وأبرز مثال في القرن العشرين هو تأثير كارل بوبر الفيلسوف على العلوم.

  
س١٢ / لماذا تغيب ظاهرة الفيلسوف الجماهيري بعكس الروائي الجماهيري أو الشاعر الجماهيري   ؟
 

ج١٢/الفيلسوف وَ الجماهيري كلمتان متعارضتان في ظاهرهما، فالفلسفة علم متخصص جدا ولا يتناول المسائل التي تهم الجماهير بشكل مباشر كما يفعل الروائي أو الشاعر أو الصحافي. ومع ذلك فهناك فلاسفة حازوا على نصيب من الجماهيرية أو المقروءية بين غير المتخصصين في الفلسفة.. لا يخفى أن سقراط نار على علم وهو معروف ولكن هذا يعود لمسار حياته ونهايته التراجيدية ولبعض العبارات الرائجة مثل " أعرف نفسك"، " الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني لا أعرف شيئا". وهذا ينطبق على نيتشه حيث أن شهرته تعود للشذرات البليغة التي راجت في كتبه الأخيرة.. وجنونه والاشتباه في دوره في ظهور مذاهب القوة السياسية كالنازية. واشتهر شوبنهور لموقفه العدائي تجاه المرأة. وقل مثل ذلك فيما يتعلق ببراتراند راسل بسبب نضاله السياسي ضد الحرب والتي سجن على أثرها وكذلك موقفه من حرب فيتنام وفوزه بجائزة نوبل. الملاحظ أن المذكورين لم يشتهروا بسبب فلسفاتهم بل بسبب مواقف أخرى سياسية أو حياتية أو بسبب القدرة البلاغية للفيلسوف والتي تجعل القارئ يتناوله كأديب.
مع ذلك هناك فيلسوفان يعدان استثناءً؛ كارل ماركس وجان بول سارتر. الأول راجت أفكاره بالفعل بين الناس وعملت على إحداث تغييرات جذرية رهيبة في البلدان التي انتشرت فيها أفكاره. صحيح أن أفكاره تعرضت لبعض التشويه بعدما تمت أدلجتها واستخدامها في استقطاب الجماهير لكنها مع ذلك أثرت بشكل كبير بل إن البعض لا يعرف ماركس ولا حياته الخاصة لكنه يعرف كثير من آرائه السياسية والاقتصادية والفلسفية كمذهبه المادي.وسارتر بالمثل راجت أفكاره بصورة مشابهة وإن اقتصرت على بعض بلدان أوربا. والسبب يعود إلى أن سارتر استخدم القصة والمسرحية في نشر فكره الفلسفي. إضافة إلى أن أفكاره تمس الواقع الحي للإنسان ولمصيره.
بعد انهيار ما يسمى بالأيديولوجيات، ساد نوع من الركود ومال الفلاسفة لشيء من العزلة والكتابة الأكاديمية المتخصصة والمعقدة جدا وصار هناك خوف من الأدلجة والتبشير. لذا لم يعد الفلاسفة يكتبون للناس بل لبعضهم بعضا. لذا ليس هناك فيلسوف مشهور اليوم إلا بعض الماركسيين مثل سلافوي جيجك ونعوم تشومسكي وربما بودريار. لكن شعبيتهم لا تقارن بشعبية ماركس وسارتر ونيتشه مثلا. 




 س١٣/ ما هي رؤيتك لمستقبل الفلسفة في العالم العربي وفي السعودية بشكل خاص  ؟
 


ج١٣/ الفلسفة ليست علما نفعيا كبقية أغلب العلوم وهذا ما يجعلها سيئة السمعة عربيا. فالوضع العربي يحتاج إلى علاج فوري وفعلي ومباشر والفلسفة لا تقوم بذلك. في السعودية والخليج سيكون هناك مستقبل زاهر للفكر الفلسفي، وخصوصا عندما يتم إقراره في التعليم. ورغم خطورة التعليم على الفلسفة إذا كان الأول تعليما تقليديا محافظا إلا أن حضور الفلسفة في المناهج أفضل بكثير من غيابها.
 

 @shayaalwaqian
 @Hmd1_0

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق