الانعتاق من أسْر البيئة الفكرية المكوّنة لعقل النخبوي الذي يعيش في بيئته له تبعاته الخطيرةعلى المستويين العامي و النخبوي .في تلك الحالة ، المنعتق يكون في حالة مواجهة مع الجماهير و النخبة ؛ لأنه يغيّر من طرق التفكير الأصلية التي اعتادت النخبة على اتخاذها كمنهج تبني عليها قراراتها ورؤاها ومنهجيتها في التعامل مع الآخر . المفكر الإيراني علي شريعتي واحد من هؤلاء الذين حاولوا إصلاح البيئة الفكرية التي نشأ فيها من خلال اتخاذه طريقة خاصة في منهجية التفكير وبالتالي بنى على تلك الطريقة تعامله مع الآخر . كذلك النظرة للأحداث التاريخية بحياد وموضوعية أمر في غاية الصعوبة في البيئات الآيدلوجية التي لاتقبل إعادة النظر في التاريخ . علي شريعتي واحد من الذين استخدموا النظرة الموضوعية والحيادية في بعض الأحداث التاريخية في تاريخ الشيعة . في هذا المقام لست بصدد إلقاء نظرة شمولية ودقيقة وفاحصة على ذلك المفكر - النّابه- ؛ لأن المقام لايتسع ولكني قررت أن أقدّم قراءة لواحد من أهم مؤلفاته وهو : "النباهة والاستحمار" الذي هو في أصله محاضرات أقامها في حسينية الإرشاد بإيران .
يطرح عدّة إشكاليّات حول الحالة الخاصّة التي تعيشها أي أمة متخلّفة على المستويات المختلفة . يؤكّد على أهميّة عدم الرضا ويحذر من التوهم بأننا مغتنين فكريّا بالكفاءة العلمية ؛لأن الرضا بالاغتناء الفكري قد يصنع وهم الكفاءة الزّائفة . النباهة تتطلب أن يكون المرء في بحث دائم وسعي دؤوب ولا يقف عند رضا معين من المستوى العقلي . أفراد الأمّة الناهضة والمتفوقة يكون أفرادها في بحث دائم وسعي دؤوب ولايقفون
عند حدّ معيّن من الأفكار والرؤى .يرى شريعتي بأن" المتعلّم قد يبقى جاهلا وأخرس وأعمى لأن الإنسان إذا أُُ شبع بالعلم لم يعد يشعر بالجوع الفكري حيث ينظر إلى قضايا العلم منفصلة عن قضايا الفكر" .
وهنا أتذكر مقولة للفيلسوف والرياضي الفرنسي باسكال (1623م-1662م) :"مرض الإنسان الطبيعي أنه يمتلك الحقيقة " يشير إلى أن : ادّعاء ملك الحقيقة الكاملة والواحدة قد يُسهم في صناعة الزيف الذي هو( المرض) على مستوى القضايا الفكرية التي تتغيّربتغيّرالزمان والمكان .
-يرى شريعتي بأن الأديان الوراثيّة كلّها متشابهة من ناحية أن الذي يُتّخذ وراثة وسنة واعتيادا من غير علم ولا بصيرة يكون شيئا واحدا في النهاية ويكون معرّضا للتمرّد من قبل الأجيال التالية .وإذا أمعنا النظر في كثير من القضايا المستجدّة التي تحدث في مجتمع ما - أيا كان ذلك المجتمع- الذي يتّخذ أفراده الدين وراثة من غير علم ولا بصيرة فإنه ينطبق عليها تماما ماذهب إليه شريعتي ألا وهو يكون التمرّد مصير ما ارتبط بعادات وتقاليد مؤقتة وهي ممّا لاشكّ فيه معرّضة للتغيّر مع مرور الزمن والشواهد من حولنا كثيرة .
نباهة نفسية أو فردية ونباهة اجتماعية ويرى بأن ّ العدو الحقيقي للإنسان هو الذي يسلب تلك النباهتين و من دلائل التخلّف لأي أمة هي أنها تكون مسلوبة للنباهتين الآنفة الذكر ومغيّبة بوعيها ولا تدري بأنها مسلوبة و اتّباع الهوى لأفراد أي أمة تكون معرّضة لذهاب العقل والوعي.. ورحم الله شوقي إذ يقول :
إذا رأيت الهوى في أمّة حكماً فاحكم هنالك أنّ العقل قد ذهبا .
-المتأمّل في سير الجباهذة والعظماء من مفكرين والفلاسفة يرى بأنّ هناك مشترك بينهم وهو الوعي والفطنة والنباهة منذ الصغر ولنأخذ مثالا على أعظم شعراء العرب المتنبي قال في صباه :
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي
ويقول
أنا تِرْب الندى وربّ القوافي وسمام العِدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله غريب كـصالح فــي ثمود
تلك الأبيات قالها المتنبي في صباه وهي دلالة على وعي الفتى ونباهته لذا أصبح من الخالدين ومصدر إلهام لكل من أراد الحكمة والفطنة والوعي .
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي
ويقول
أنا تِرْب الندى وربّ القوافي وسمام العِدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله غريب كـصالح فــي ثمود
تلك الأبيات قالها المتنبي في صباه وهي دلالة على وعي الفتى ونباهته لذا أصبح من الخالدين ومصدر إلهام لكل من أراد الحكمة والفطنة والوعي .
لأجل تطبيق الاستحمار القديم يُستفاد من : الشعر , تعظيم الماضي .....الخ ولأجل تطبيق الاستحمار الحديث يُستفاد من : التخصص , المرأة ...الخ "
الشعر قد يكون أداة للاستحمار أي أن ماقد يكون جميلا شعريا قد يكون قبيحا ثقافيا من خلال تغلغله بالثقافة المجتمعية .إذا تشعرنت أي قيمة مجتمعية فإنها قد تكون قابلة للكذب الجمالي فبالتالي تتعرّض لزيف وخداع وينتقل ذلك الزيف لأفراد المجتمع .
تعظيم الماضي يكون أداة للاستحمار من خلال البحث عن المآسي والنزعات التاريخية وأسْر العقل بأمجاد الماضي وتغييبه عن الحاضر .
تعظيم الماضي يكون أداة للاستحمار من خلال البحث عن المآسي والنزعات التاريخية وأسْر العقل بأمجاد الماضي وتغييبه عن الحاضر .
يرى شريعتي بأن إثارة قضايا المرأة يعدّ نوعا من أنواع الاستحمار إذا كان القصد إثارة قضاياها من أجل الإلهاء عن قضايا أكبر وأهم من قضايا المرأة . ويرى بأن الانغماس في التخصص والغوص فيه قد يُفقد الإنسان الدراية الاجتماعية إذ يعمل التخصص على نمو الفرد من جهة واحدة ويعطله من بقية الجهات والتخصص بلاشك مطلوب ولكن يجب أن لايعطّل الدراية الاجتماعية والنباهة الفردية .
ومضة :
كلّ حكمة تقال في الزمن الحالي قد قيلت في الزمن الماضي ولكن بصورة مختلفة وكل حكمة قيلت في ثقافة ما حتما سنجدها في ثقافة أخرى ولكن بصورة مختلفة ..!