الجمعة، 1 فبراير 2013

قراءة في النباهة و الاستحمار للمفكر الإيراني علي شريعتي




الانعتاق من أسْر البيئة الفكرية المكوّنة لعقل النخبوي الذي يعيش في بيئته  له تبعاته الخطيرةعلى  المستويين العامي و النخبوي .في تلك الحالة ، المنعتق يكون في حالة مواجهة مع الجماهير  و النخبة ؛ لأنه  يغيّر من طرق التفكير الأصلية  التي اعتادت النخبة على اتخاذها كمنهج تبني عليها قراراتها ورؤاها ومنهجيتها في التعامل مع الآخر . المفكر الإيراني علي شريعتي واحد من هؤلاء الذين حاولوا إصلاح البيئة الفكرية التي نشأ فيها  من خلال اتخاذه طريقة خاصة في منهجية التفكير وبالتالي  بنى على تلك الطريقة تعامله مع الآخر . كذلك النظرة  للأحداث التاريخية بحياد وموضوعية أمر في غاية الصعوبة  في البيئات الآيدلوجية  التي لاتقبل إعادة النظر في التاريخ . علي شريعتي واحد من الذين استخدموا النظرة الموضوعية والحيادية في بعض الأحداث التاريخية في تاريخ الشيعة . في هذا المقام لست بصدد إلقاء نظرة شمولية ودقيقة وفاحصة على ذلك  المفكر - النّابه- ؛ لأن المقام لايتسع ولكني قررت أن أقدّم قراءة لواحد من أهم مؤلفاته وهو : "النباهة والاستحمار"  الذي هو في أصله  محاضرات أقامها في حسينية الإرشاد بإيران .



 يطرح عدّة إشكاليّات حول الحالة الخاصّة التي تعيشها أي أمة متخلّفة على المستويات المختلفة . يؤكّد على أهميّة عدم الرضا ويحذر من التوهم بأننا مغتنين فكريّا بالكفاءة العلمية ؛لأن الرضا بالاغتناء الفكري قد يصنع وهم الكفاءة الزّائفة . النباهة تتطلب أن يكون المرء في بحث دائم وسعي دؤوب ولا يقف عند رضا معين من المستوى العقلي .   أفراد الأمّة الناهضة والمتفوقة  يكون أفرادها في بحث دائم وسعي دؤوب  ولايقفون
عند حدّ معيّن من الأفكار والرؤى .يرى شريعتي بأن" المتعلّم قد يبقى جاهلا وأخرس وأعمى لأن الإنسان إذا أُُ شبع بالعلم لم يعد يشعر بالجوع الفكري حيث ينظر إلى قضايا العلم منفصلة عن قضايا الفكر" .

وهنا أتذكر مقولة للفيلسوف والرياضي الفرنسي باسكال (1623م-1662م) :"مرض الإنسان الطبيعي أنه يمتلك الحقيقة " يشير إلى أن : ادّعاء ملك الحقيقة الكاملة والواحدة قد يُسهم في صناعة الزيف الذي هو( المرض) على مستوى القضايا الفكرية التي تتغيّربتغيّرالزمان والمكان .


- المجتمع الذي يرتبط بهدف عال و الذي يُحرّكه ُ العقيدة و الإيمان يتفوّق على كل قدرة ؛ لأن الإيمان و العقيدة أقوى من أي شيء.إذ هما ركيزتان يجب أن تعتمد عليهما أي أمّة لبلوغ المجد ومواكبة الركب الحضاري . يمكن استخلاص أسباب إيقاظ العقول من السّبات العميق من البيئة ذاتها التي نشأت عليها تلك العقول من خلال إعادة قراءة الأشياء التي أسهمت في تكوين تلك العقول وإزالة الغبارعنها لتكون أكثر ملائمة للواقع و متطلباته .

-يرى شريعتي بأن الأديان الوراثيّة كلّها متشابهة من ناحية أن الذي يُتّخذ وراثة وسنة واعتيادا من غير علم ولا بصيرة يكون شيئا واحدا في النهاية ويكون معرّضا للتمرّد من قبل الأجيال التالية .وإذا أمعنا النظر في كثير من القضايا المستجدّة التي تحدث في مجتمع ما - أيا كان ذلك المجتمع- الذي يتّخذ أفراده الدين وراثة من غير علم ولا بصيرة فإنه ينطبق عليها تماما ماذهب إليه شريعتي ألا وهو يكون التمرّد مصير ما ارتبط بعادات وتقاليد مؤقتة وهي ممّا لاشكّ فيه معرّضة للتغيّر مع مرور الزمن والشواهد من حولنا كثيرة .

-"إن قيمة كل واحد منّا على قدر إيمانه بنفسه " ص30 هنا يؤكد شريعتي  بأن إعلاء مستوى الإيمان بالقدرات في داخل أعماق الإنسان ينعكس بالضرورة على القيمة الفردية له بمجتمعه .  النباهة يقسّمها إلى قسمين :
نباهة نفسية أو فردية ونباهة اجتماعية ويرى بأن ّ العدو الحقيقي للإنسان هو الذي يسلب تلك النباهتين و من دلائل التخلّف لأي أمة هي أنها تكون مسلوبة للنباهتين الآنفة الذكر ومغيّبة بوعيها ولا تدري بأنها مسلوبة و اتّباع الهوى لأفراد أي أمة تكون معرّضة  لذهاب العقل والوعي.. ورحم الله شوقي إذ يقول :

إذا رأيت الهوى في أمّة حكماً    فاحكم هنالك أنّ العقل قد ذهبا .

-المتأمّل في سير الجباهذة والعظماء من مفكرين والفلاسفة يرى بأنّ هناك مشترك بينهم وهو الوعي والفطنة والنباهة منذ الصغر  ولنأخذ مثالا على أعظم شعراء العرب  المتنبي قال في صباه :
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي  وبنفسي فخرت لا بجدودي
ويقول
أنا تِرْب الندى وربّ القوافي   وسمام العِدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله          غريب كـصالح فــي ثمود
تلك الأبيات قالها المتنبي في صباه وهي دلالة على وعي الفتى ونباهته لذا أصبح من الخالدين ومصدر إلهام لكل من أراد الحكمة والفطنة والوعي .

-يقول شريعتي :" الاستحمار أصبح في عصرنا الحالي معزّزاً بالعلم والإذاعة والتلفاز والتربية والتعليم صار فنا دقيقا ومن هنا يصعب معرفته لصعوبته ودقّته "  أي أن أي غرض يمكن استخدامه لإجل الإلهاء والاستحمار .فمعني الاستحمار كما يراه : "تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره وتغيير مساره عن النباهتين الفردية والاجتماعية " ويرى بأن الاستحمار ينقسم إلى قسمين :  استحمار قديم و استحمار حديث  

لأجل تطبيق الاستحمار القديم  يُستفاد من  : الشعر , تعظيم الماضي  .....الخ  ولأجل تطبيق الاستحمار الحديث يُستفاد من : التخصص , المرأة ...الخ  "

الشعر قد يكون أداة للاستحمار أي أن ماقد يكون جميلا شعريا قد يكون قبيحا ثقافيا من خلال تغلغله بالثقافة المجتمعية .إذا تشعرنت أي قيمة مجتمعية فإنها قد تكون قابلة للكذب الجمالي فبالتالي تتعرّض لزيف وخداع وينتقل ذلك الزيف لأفراد المجتمع  .
تعظيم الماضي يكون أداة للاستحمار من خلال البحث عن المآسي والنزعات التاريخية وأسْر العقل بأمجاد الماضي وتغييبه عن الحاضر .
يرى شريعتي بأن إثارة قضايا المرأة يعدّ نوعا من أنواع الاستحمار إذا كان القصد إثارة قضاياها من أجل الإلهاء عن قضايا أكبر وأهم من قضايا المرأة . ويرى بأن الانغماس في التخصص والغوص فيه  قد يُفقد الإنسان الدراية الاجتماعية إذ يعمل التخصص على نمو الفرد من جهة واحدة ويعطله من بقية الجهات والتخصص بلاشك مطلوب ولكن يجب أن لايعطّل الدراية الاجتماعية والنباهة الفردية .

- للاستحمار شكلان : مباشر و غير مباشر فالمباشر هو ما يحرّك الأذهان إلى الجهل و الغفلة ..أما الغير مباشر : هو إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية اللافورية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسيّة وأداة استحمار أي شخص ترتبط بنوعه فمثلا : إذا كان شخص ما يهتمّ بـ "س" من الاهتمامات فإن العمل على زيادة اهتمامه بها يعدّ نوعا من الاستحمار شريطة أن يكون من أجل إلهائه عن المطالبة بالحقوق الكبرى ..

-تعجّبت عندما علمت بأن صاحب هذا المؤلف.. المفكر التجديدي علي شريعتي اُغتيل عام 1977م أي قبل أكثر من ثلاثين عاما في منفاه ببريطانيا . كأن المؤلف يعيش بيننا اليوم .  هلا عرفتم  يا قرّائي الكرام قيمة الكتب الفكرية الفلسفية فإنها تبقى خالدة في التاريخ وتحكي  مستقبل  الأيام  لأن العقل والبصيرة  مصدرها .

ومضة :
كلّ حكمة تقال في الزمن الحالي قد قيلت في الزمن الماضي ولكن بصورة مختلفة وكل حكمة قيلت في ثقافة ما حتما سنجدها في ثقافة أخرى ولكن بصورة مختلفة ..!