الخميس، 12 ديسمبر 2013

رثاء قبل الولادة !

 
بدر شاكر السياب



قبل سنوات ، كنتُ وحيداً مع معلّمي الجنوب إفريقيّ -جون- يعلّمني ويدرّبني على أسلوبِ المحادثةِ باللغة الإنجليزيّة  بعد انتهائي من الدّرس -وبعد تردّدٍ و تمنّعٍ بيني وبين نفسي - وقبل أن يمسح ما كتبهُ لي على السبّورةِ البيضاء - بادرتهبسؤال مفاجئ / ما هي أفضلُ قصيدة قرأتها باللغة الإنجليزيّة ؟!


اندهشَ من السّؤال وخلع نظارته الذهبيّة  وأخذ يفكّر ويتمتمُ قليلًا ، وكتب على السبورة : Prayer before the birth .. أي : صلاة قبل الولادة 
اندهشتُ من العنوان الغريب وثنّيتهُ بسؤالٍ آخر : لمن القصيدة ؟ - نسيت ولكنها رائعة جدّاً قرأتها منذ زمن ونسيت قائلها ..


وانتهى الحوار والدرس ومضيت خارج الفصل الدراسيّ.

كنتُ أتوقّعُ  أن يُجيب على ذلك السؤالِ بأن يذكر لي :إحدى غزليّاتِ اللورد بايرون أو تأمّلاتِ الشّاب جون كتس أو سونتيات العملاق شكسبير أو ذلك  الفردوس المفقود لجون ملتون أو أرضِ يبابِ ت . س إليوت ! 

عرفتُ لاحقاً أن قصيدة (صلاةٌ قبل الولادة ) للإيرلندي المغمور الرائع لويس مكنيس (١٩٠٧م-١٩٦٣م ) صوّر فيها جنينًا من أحشاء أمّهِ يعاتبُ العالم وقادتهُ على ذلك الدّمار و الخراب والهلاك الذي حصل أثناء وبعد الحربِ العالميّة الثانية . 


رسم في قصيدته تلك آلام ذلك الجنين وأحلامه وكأن مكنيس بذلك الجنين يُمثّلُ الأجيال اللاحقة للبشريّة -التي ستعيشُ يومًا ما- على هذه الأرض  رافضةً ظلام القتل والحروب و الكراهيّة و العنف داحضةً للشر جالبةً للخير آملةً بأن يعمّ أضواء السّلام و المحبّة والخير  في الأرجاءِ المعمورة . 
أصبحت القصيدة كالوشمِ في ذاكرتي لا يُمكن أن يُمحى نظراً ؛ لهوْلِ ما أشاهده من قتلٍ وعنف وجرائم وحزنٍ  في هذا العالم وكأنّ هذا الزمن زمنُ السّائِليْن : الدّماء والدّموع ! 

سأنير ستّ ومضات على تلك الرّائعةِ الإنسانيّة بحيث يكون نصيب كلّ مقطعٍ شعريّ منها ومضةٌ واحدة : 

الومضة الأولى / الجنينُ يخافُ الكائنات الليلية كالخفافيشِ والهوامّ .


الومضة الثانية / يخشى الجنين من الحيلِ و الأوهام التي تُغري البشر.


الومضة الثالثة / 

يأملُ الجنين أن يكون صديقاً للطبيعةِ فقط وأن يستمتع بجماليّاتِها وأن يستنير عقله . 


الومضةُ الرابعة / يطلبُ الجنين من الربّ المغفرةُ من الآثامِ و الخطايا التي ارتكبها البشر في هذا العالم ويشير إلى أن أفكار العالم ستكون أفكاره . 

الومضةُ الخامسة / يسألُ الجنين الإله بأن يُلهمهُ ويرشده في المواقف الصعبة وأن يعلمه كيف يواجهُ أمر السخريةِ من العشّاق  وأن الجبال أصبحت عابسة  في وجهه ربّما ؛ لأنّها سمعت نداءهُ المؤلم ! 

الومضة السادسة / في نهاية الصلاة ، يعلو يئن ويصرخ الجنين طالبا المدد بقوة ضدّ من قد يجمّدُ إنسانيّته أو ضدّ من قد يجعله كالتّرسِ في الآلةِ أو ضدّ من قد يبدد أحشاءه في هذه الأرض ، ويبلغ الصراخ ذروته في الختام (إن لم يستجب ندائي ولم تتوقف الحروب في هذا العالمِ القاسي فليجهضونني في أحشاءِ أمّي)  ، وكأنه بهذا الختام أصبحت كلماته  كالرثاء  قبل الولادة !

في تلك الومضات حاولتُ فقط أن ألقي الضوء على مقاطعهِ الشعريّة الستة ؛ وإلّا فإنّ القصيدة أعمق إنسانيًّا من تلك الومضات ، وحاولتُ أيضًا بأن أستخدم أسلوبه ذاته في تسلسلِ طول المقاطعِ الشّعريّة في قصيدته  ؛ إذ أنّ المقطعُ الشّعري يبدأ صغيرًا ثمّ يكبر وهنا تتجلّى صورة إبداعيّة عند مكنيس وكأن تلك المقاطع تماماً مثل الجنين ينمو شيئاً فشيئاً ..! 

بحثتُ عمّا إذا كان أحد ما قد ترجم تلك الرائعة الإنسانيّة أو أيّ قصيدة أخرى له للعربية أم لا ؟ فلم أجد أحداً ؛ لكنني دُهشت عندما كنتُ أتصفّح أعمال الشاعر العراقيّ بدر شاكر السيّاب بقصيدة عنونها ب (لوي مكنيس ) يرثي فيها ذلك الإيرلنديّ المغمور : -


"أتى نعيهُ اليومَ جابَ الدّيار ..وجَابَ المُحيطات حتّى أتاني ..فلم تجر بالأدمعِ المقلتان ..فقد غلغلت من دمي في القرار ..أبي مات لم أبكِ حزناً عليه ..وإن جنّ قلبي ..من الهمّ وانهدّ شوقًا إليه ..نعتْه إلينا مجلّةْ ..نعاهُ مقالٌ حزين ْ .........سماواته الشّعر يصرخ بالغافلين ..وأحسستُ بالشّوق (كالمدمنين إلى جرعةِ من طلىً ظامئين ) إلى شعرهِ ..لأحرق ، قربان وجدٍ وحبٍّ ،فؤاديَ في جمره .ولكنّ ديوانه دفينًا غدًا بين أكداس كتب تمصّ العناكب ألوانه ويقرأه الصّمتُ للآخرين .
إلى أن أسدل الختام على قصيدته بقولهِ : وياليتني متُّ ، إن السعيدْ من اطّرح العبءَ عن ظهرهِ وسار إلى قبرهليولد في موتهِ من جديد ! 

لم أكن أتصوّر بأن العراقي في آخر حياته سيرثي ذلك الإيرلنديّ المغمور ،  والعجيب أن توقيت رحيلهما عن الحياة لم يفصل بينهما سوى عام واحد فالأوّل رحل عام ١٩٦٤م والآخر رحل عام ١٩٦٣م . وكلاهُما تجرّع مرارةَ الفقد واليتم منذ الصّغر ؛ إذ رحلت أمّ كل منهما وعمرهما سبع سنوات تقريباً ؛ لذا لا غرو إن وجدنا في قصائدهما الألم وصدق التعبير عن العاطفة والنظرة السوداء لهذه الحياة وبؤسها ،فالسيّاب أبدع (المومس العمياء ) ومكنيس عنْونَ باكورة أعمالهِ الإبداعيةِ ب ( الألعاب النّارية العمياء ) . حتّى ظروف أيّامهما الأخيرة في الحياة أيضًا كانت متشابهة فقد عانيَا من شدّةِ المرض وقسوته فالإيرلنديّ رحل بسبب مرض الإلتهاب الرّئوي والعراقي رحل بسبب مرض السّلّ ..! 

قبل أسابيع من كتابِة هذا المقال اقترحت على أحدِ المترجمين المبدعين أن يترجم تلك القصيدة الرائعة للعربية ؛  فلا ندري علّنا نشمّ عبق السيّاب تفوح  من سطورها الحزينة ..! 

يبدو إنّ معلّمي الجنوب إفريقي الذي أخبرني عن القصيدة كان يقصدُ أنها أفضل قصيدة تلائم وصف  هذا العالم المليء بالدّمار والعنف وكأنّه من هولِ ما فيه أشبهُ برثاءٍ قبل الولادة ..! 

الجمعة، 22 نوفمبر 2013

هوليوود وسرقة التاريخ !

 

 في العقودِ الماضية شغلت قضيّة تشويهِ العرب والمسلمين في أفلام (هوليوود) حيزًا من الاهتمامِ و المناقشة لدى بعض النقادِ والنخب الثقافية التي تهتمّ بثقافةِ الصورة وتأثيرها 
في عقل المتلقّي ؛ ولكنها غفلت عن السرقة (الناعمة) والهادئة التي تقوم بها أفلامُ (هوليوود) من خلالِ ما يلي :
هوليوود

١-إنتاج واحتكار أفلامٍ لقصص تاريخيّة واقعيّة لدولٍ أخرى وخاصة دُول العالم الثالث .
٢-تحسين وجهة النظر الأمريكية وتلميعها إزاء القضايا والأحداث التاريخية وعدم عرض وجهة النظر المُحايدة .
٣-تزوير بعض الأحداثِ التاريخية .
٤-إظهار الدول التي لا تمتلكُ إنتاجا سينمائيا قويًّا وأبطالها التاريخيين بصورة قاصرة و مبتسرة .

تلك السرقة (الناعمة) لها عظيمُ الأثر في تشكيلِ رأي المتلقي حول الأحداث ؛ لأنّ ثقافة الصورة السينمائية السحرية أقوى من صفحات ووثائقِ التاريخ فمثلا : عندما نقول عمر المختار فإن الذهن بصورة تلقائيّة سيذهب مباشرة إلى عمر المختار الذي في الفيلم لا عمر المختار الذي في صفحات كتب ووثائقِ التاريخ وهذهِ الصورة الذهنية ستبقى دائمة ومستمرة إلّا إذا قابلتها صورة مُماثلة في القوة و التأثير أي : إنتاجُ فيلمٍ  آخر يحكي سيرة عمر المختار .



في عامِ ١٨٣٩م قامت ثورة (الأميستاد) عندما قام العبيدُ بتحريرِ أنفسهم أثناء عمليّةِ نقلهم من كوبا إلى أمريكا .يُشير المؤلف الأمريكي (جيرالد ف.ديركس )في كتابه : المسلمون في التاريخِ الأمريكي :إرث منسيّ -والذي ترجمه الدكتور سعد البازعي - إلى وجودِ رجال مسلمين كان لهم دورٌ  مؤثرٌ وبارزٌ في تلك الثورة الناجحة  .

أخطأ (ستيفين سبيلبيرج)  الذي أخرجَ فيلما تحت مسمى (Amisted) أميستاد عام ١٩٩٧م  يحكي تلك الواقعة ؛ لعدمِ تطرقه لدور المسلمين البارز في تلك الحادثة  .ذلك الفيلم حقق نجاحات واسعة ؛ ولكن ذلك الخطأ الذي قام بهِ المخرج سيبقى في ذاكرة المتلقّي ولن يمحى من ذاكرة التاريخ إلا بفيلم آخر يقابله ؛ لأنّه عندما تقول للمتلقي حادثة -أميستاد- فإنّ الذهن سينصرف للقطات فيلم (سبيلبيرج) لا لصفحاتِ كتاب (جيرالد ف.ديركس) .

ثمّة أفلام أخرى تنتجها (هوليوود) ويكون مضمونها عرض القضايا الدولية التاريخية للولاياتِ المتحدة الأمريكية مع دول أخرى وليتها تكتفي بعرض القضية فحسب ؛ولكنها أيضا تعرض تعريفا لتلك الدول ضمنا في تلك الأفلام حسب وجهة نظرِها  وقد لا تتفق معها تلك الدول في ذلك التعريف تماما كما حصل مع فيلمي (Argo) آرجو و (The kingdom) المملكة . فالأول يتحدّثُ عن قضيّةِ اختطافِ الدبلوماسيين الأمريكيين بإيران وكيفية تحريرهم بنجاح ولم يكتفِ الفيلم بعرضِ القضية فقط وإنّما أعطى نبذة تعريفية عن إيران في بداية الفيلم تلك النظرة سترسخ في ذهن المتلقّي لأمد طويل كون الفيلم حقق الأوسكار في فئة أفضل فيلم و قد لا تتفق إيران مع طريقة عرضِ تلك النبذة . 

وكذلك الأمر مع فيلم (the kingdom ) المملكة كانت قضية الفيلم الرئيسيّة كانت تتمحور حول التفجيراتِ في إحدى المجمعات والتي يسكنها أمريكيون فترسلُ الولايات المتحدة فريقاً من FBI لعمل تحقيق في تلك القضية ولم يكتف المخرج بعرض القضية وإنما أيضا عرضَ نبذة تعريفية قاصرة ومُبتسرة عن السعودية في ذلك  الفيلم في وضعٍ مُشابه لما حدثَ مع فيلم آرجو .

تلك السرقة (الناعمة)  لم تقتصرعلى الأحداث التّاريخية فقط وإنّما امتدّت يدها لتنتج أفلام السير الذاتية للأبطال التاريخيين تماما كما حصل مع فيلم (Breaveheart) قلب شجاع الذي يحكي قصة البطل التاريخي لأسكتلندا" ويليام والاس"، أصبح الاسكتلندي الذي يفتخر بويليام والاس إذا أراد أن يُعرّف به لأي شخصٍ آخر فإنه سيقول له :شاهد فيلم قلب شجاع وذلك الشخص سيُشاهدُ فيلما اسكتلنديا شكليا ؛ ولكنه أمريكي إنتاجا وتمثيلا و كتابة وهذا يعني أن أمريكا احتكرت بصورة غير مباشرة سيرة ذلك البطل الأسكتلندي وربطته بها تاريخيا  عن طريق ذلك الفيلم ..!

استغل أيضاً منتجو (هوليوود) أحداثا تاريخيّة وقعت في دول العالم الثالث وعملوا منها أفلاما حققت نجاحاتٍ باهرة تماما كما حصل مع فيلم فندق رواندا (Hotel Rwanda) الذي يحكي قصة الحقبة الزّمنية للحرب الأهلية بين قبيلتي (التوتشي ) و (الهوتو) وتمّ إنتاجه أمريكيا خالصا ؛ بالرغم من أن الأحداث لا تمت بأي صلة لأمريكا .
لم تسلم بعض الأحداث التاريخيّة الهامّةِ في الدول العظمى كألمانيا من تلك السرقة ؛ إذ تمّ إنتاج عام ٢٠٠٨م فيلم (فالكيري) والذي يحكي قصة واقعية لمحاولة اغتيال هتلر كان أيضا أمريكيا كتابة وإخراجا وإنتاجا ولغةً ..! 

أظنّ أنّ معظم دول العالم تعرّضت ولاتزال تتعرّض لتلك السّرقة (النّاعمة) ؛  باستثناء الهند إذ مُعظم أفلامها التاريخية إما أن تكون إنتاجا مشتركا تماما كما حصل في فيلم (غاندي) إذ تم إنتاجه بشراكةٍ هندية-بريطانيّة وتم عرضه باللغتين الإنجليزية و الهندية أو أن يكون إنتاجا هنديا محضا (بوليووديا ) ..! 
إنّ ضرورة إيجاد صناعة سينمائية حقيقيّة باتت ضرورة ليس للترفيه وإنما أيضًا ؛ لقطع تلك اليدِ السّارقة لثقافةِ الصورة السينمائيّة (التاريخيّة) للدول إنتاجاً ولغة وهُويّة ؛ ولأجلِ كسر الاحتكارِ الأمريكي لأرشفة الفنّ السابع لأحداثِ التاريخ في العالم وحتّى نصوغ أحداثنا التاريخية بصياغتنا نحن " لا بيد عمرو"!تلك الأمثلة من الأفلام استعرضتها ؛ كي أبيّن أنواع تلك السرقة (الناعمة) حتى وإن كانت غير متعمدة من منتجي هوليوود فإني هنا أصفها ، وقد لا ندرك أثرها إلّا على المدى البعيد

 وأخشى ذلك اليوم الذي يُقال فيه :
حدثنا عن ذلك الحدث التاريخي (الفلاني) في بلدك ؟ -فيكون جوابنا شاهِد الفيلم الأمريكي (الفلاني)

الاثنين، 18 نوفمبر 2013

الرحلة الأخيرة للبحث عن أحمد مـطر !

ذات مساء حينما كنت أقلّبُ "بالريموت كنترول" متنقلا بين قنوات الفضاء العربي فإذا بإعلان  جذاب  استرعت موسيقاهُ انتباهي ، وخطف بصري يقول أحدهم فيه : 

أحمد مطر 

جسّ الطبيب خافقي ..

وقال لي :

هلْ هُنا الألم ؟

قلت له : نعم 

فشقّ بالمشرطِ جيب مِعطفي ..

وأخرجَ القلمْ ..

هزّ الطّبيبُ رأسهُ مال وابتسم ..

وقال لي :

ليس سوى قلم !

فقلت : لا يا سيّدي 

هذا يدٌ ..وفم ..

رصاصةٌ ودمْ ..

وتهمة ساخرة تمشي بلا قدَم !


تلك الكلمات ذات الإيقاع السريع في الإعلان الذي لا تتجاوز مدته ثلاثين ثانية كانت لشدّة تأثيرها عليّ كأنها خرجت من التلفاز لتكون على هيئة رجل عربيّ ملثّم ومن ثمّ مضى واختفى فجأة من أمامي !. 


تساءلتُ من ذلك الرجل المجهول الذي كتب تلك الكلمات ؟  سجلت تلك الكلمات على وُريقة حتى (أقوقلها) لاحقا كعادتي مع أي شيء أرغب معرفتهُ سريعًا . 

وبدأتُ رحلت البحث - افتراضيا- بدءاً من كتابة مقتطف من تلك الكلمات فإذا بسيلِ النتائج في محرّك البحث تتفقُ على أن اسمه : أحمد مطر ..! 

ويزداد الشغفُ لديّ ويكبر استفهام في الأفق من هو أحمد مطر ؟ 


ربما لم يدر في خلد  ذلك الابن الرابعِ الجميل (يوسف )- كما يُطلق عليه إخوته لجماله البهيّ- الذي قال في صباه صادحا بالحبّ والجمال :

مرقت كالسّهمِ لا تلْوي خُطاها

ليت شعري مالذي اليوم دهاها

 أن مصيره سيكون مهاجراً وعازفا تراجيديّا وساخرا  على الأوتار السوداء للآلام العربية في العصرِ الحديث  ذلك العزف الذي ترنمت به الشعوب العربية  . وعلى النقيض تماما اعتبرته السلطات في العالم العربي ضجيجًا سمعيا بل وخانقاً مما أدّى إلى سكونه شيئا فشيئا حتى اختفى ذلك العزف؟! 


في السبعينات الميلادية انتقل من العراق إلى الكويت ليعمل محرّرًا ثقافيّا في صحيفةِ القبس وكتب لافتاتهِ ولوّح بها في السماءِ عاليًا    ورآها الجميع وعرف الناس أن حامل لواءها اسمه : أحمد مطر .

كان توءم روحهِ ناجي العليّ يترجم ما كتبه أحمد على هيئةِ رسومات ساخرة وناقدة لاذعة للحكومات والسلطات العربية في ذات الصحيفة ، وأصبحت كلمات أحمد ورسومات ناجي كأنها عملة ذهبيّة واحدة لايصُحّ بها وجه دون آخر تُطالب بشيء اسمه : الحريّة !

هاجرا سويّا إلى لندن بعد المضايقات والملاحقات وهناك كانت الفاجعة الكبرى التي زرعت أشواك البؤس والحزن  في فؤاد أحمد مطر ،  في ٢٩ أغسطس من عام ١٩٨٧م  رصاصةُ مسدس كاتم للصوت -مجهولة المصدر-  استقرّت في رأسِ ناجي العلي لِيُطمس الوجهُ الآخر من العملة الذهبيّةِ ..

رثاهُ أحمد مطر بقصيدة مخضبةٍ بالدموع كتبها على بحر (الألم) القاسي العميق عبّر عن ذلك الفقد الأمرّ بقصيدةٍ همزية  طويلة  أكثر من خمسين بيتا عنونها بِ ( ما أصعب الكلام )  فجّر فيها كل ينابيع الحزن في ذاته..  جاء مطلعها ألم عميق مغلّف بشكرٍ  للخطباء والشّعراء ولكل من ضاع وقته في التدبيج والإطراء  : 


شكرا على التّأبينِ والإطراء ..

يا معْشرَ الخطباءِ و الشّعراءِ ..

شكراً على ما ضاع من أوقاتكم .. 

في غمرةِ التّدبيجِ والإطراء ..

ويقول في موضع آخر : 

"ناجيّ العليّ" لقد نجوت بقدرةٍ ..

من عارنا ، وعلوتَ للعلياءِ ..

اِصعدْ ،فموطِنُك السماء ، وخلّنا ..

في الأرضِ إنّ الأرض للجبناءِ ..


وهنا يرى بأن صاحبه قد نجا إلى السماء ، وكأن الشكر في مطلع القصيدة موجه أيضا لربّ السماء على نجاة صاحبهِ من أرضِ الجبناء ..!! 

ويقول في موضعٍ آخر : 

ماذا يضيرك أنْ تفارق أمّة ..

ليست سوى خطأ من الأخطاء ..

رملٌ تداخل بعضهُ في بعضهِ ..

حتى غدا كالصّخرةِ الصمّاءِ ..

لا الريحُ ترفعها إلى الأعلى ..

ولا النيران تمنعها من الإغفاءِ .. 

 

إذْ لا ضير يا ناجي العلي في مفارقة أمة هي خطأ من الأخطاء لا  ريح (الأحداث ) ترفعها إلى أعلى ولا نيران           ( المصائب ) تمنعها من الإغفاء ، وهل يضيرُ الإنسان  أصلا مُفارقة صخر أصمّ لا يجدي ولا ينفع ؟! 


والقصيدة طويلة تستحقّ الوقوف أمامها لما تحمله من إشارات ودلالات نارية وقوية تضيء الليل الحالك  ، والمقام هنا لا يتسع لي بأن أقف على تلك الهمزية الصادقة التي خرجت منه رغم أشواك الحزن في فؤاده .. ! 

سنحت لي الفرصة العظيمة في اقتناء أعمالهِ الكاملة من دار الالتزام اللبنانية  في معرض الرياض الدولي للكتاب وفرحتُ بها علني أجد جوابا ؛ لسرّ اختفائه .

مكثت ليلة لن أنساها طيلة حياتي في قراءتها ، فور انتهائي منها  احترتُ في مشاعري هل أضحك أم أبكي أم ماذا ؟ 

هل أضحك على السخرية اللاذعةِ التي عزف بها ، أم أبكي على تلك الآلام التي أصابته ؟ 

أم على الحريّة في العالمِ العربيّ ؟  


غيابٌ واختفاءٌ غامِض  وتولد في مخيلتي علامة استفهامٍ أخرى : لماذا لا يظهر في وسائل الإعلام ولماذا يتجاهلُ الإعلام يا تُرى من الذي أهمل الآخر ؟ 

عزوف عن الإعلام العربيّ امتدّ لسنواتٍ طوال لم يجرِ أي مقابلةٍ سوى ثلاث مقابلات صحفية : مقابلة مع موقع الساخر  ، ومقابلة مع صحيفة العالم ،  ومقابلة صحفية مع الأستاذ  / أحمد المسعودي نُشرت في مجلّة الحدث في يوليو عام ٩٨ م ،  وله حديث آخر مقتضب لا يمكن اعتباره مقابلة كاملة أخذ من فيلم اسمه :( فنان صاحب رؤية ) وعرض ذلك الحديث ضمن الجزء الثاني من الفيلم الوثائقي الذي أنتجته الجزيرة بعنوان / من قتل ناجي العلي ؟!

يقول أحمد مطر  : "..الأوزان والقوافي هي لعبتي منذ الصّبا لقد درت حول دوائر الخليل حتى دار رأسي وعكفت وأنا في المتوسطة ، على إعطاء دروس في العروضِ لطلّاب الجامعة ، إن هوسي بالأوزان جعلني أبتكر بحراً شعريّا جديداً ، وهو البحر الذي كتبتُ بهِ قصيدة : ميلادِ الموت عام ١٩٨٠م ...الخ " 

لكن المتأمل في لافتاتهِ غلب عليها النثرية ربما ؛ لأنّ الإحساس العميق بالألم والقمع لا تكفيه أوزان الخليل مما أدى إلى خروجه (المتمرّد) و(الجميل) عن الإطار الموسيقي المعتاد ، ويكفي إشادة الجواهري بها فنا ومضمونا وهو - العمودي الصارم -! 

في شعره تجد : الوردة سيفا حارقا ،و الدمع حجراً جامداً ، وقطرات الماء جمرات لاهبة ،وأغلب الأشياء السّاخرةِ في هذه الحياة قرنها بصورة مُباشرة أو غيرِ مُباشرة بالحاكم العربيّ وكما أنه يُظهرالأشياء بعكسها في سخريةٍ  لاذعة ، ويبتكر في توظيف الألفاظ بجعلها في صور تُدهش القارئ  ، ويسدل الستار في ختام لافتاته على طريقته (المطريّة ) المبدعة بختام رائع يطبع في ذاكرة القارئ  ما لم  يتوقعه من قبل . ولعناوينه دهشتها المبتكرة التي تشد الانتباه فقال ب :( شيخوخة البكاء ) و (الطبّ يضرّ بصحّتِك ) و (طلبُ انتماء للعصر الحجريّ) و (مأساةِ أعواد الثقاب ) و ( نعم أنا إرهابي ) ! .

عرفتُ لاحقًا سبب اختفائهِ عن وسائل الإعلام عندما قال بأن : (غيابي عن المشهد الثقافي والإعلاميّ فلا يحتملُ غير تفسيرٍ واحدْ هو أنّني لا أؤمن بهذا المشهد ) ويرى بأن وسائل الإعلام : إعدام ..! .

ولكن ثمة استفهامٌ آخر يولد،  تلك الرؤى كانت قبل قرابة عشر سنوات التي قال بها فالمشهدُ تغيّر في العالم العربيّ وأضحت حرية التعبير متاحة عبر الوسائط المختلفة ك : تويتر و فيسبوك و يوتيوب ..الخ . وأضحى المواطن العربي فيه شيء من سخرية أحمد مطر ونقدهِ اللّاذع وسقطت عروش الاستبداد في بعض الدول ..هل تلك اللافتات آتت أُكلها ؟ و هل حان وقتُ خفضها بعدما أن كانت تطاول عنان السماء ؟ وأسئلةأخرى  كثيرة لا يمكن أن يجيب عليها سوى شخص واحد هو : أحمد مطر . 

وبدأتُ جادّا رحلتي الأخيرة للبحث عنه بعد رحلة بحث  أولى -افتراضية - ، ليجيب على تلك الاستفهامات المعلقة في سماء عقلي استقصيتُ بالسؤال عن مقرّ إقامتهِ  ؛ فتواصلتُ مع الصحافي المصريّ حمدي قنديل -الذي قال بصوته أبيات أحمد مطر في ذلك الإعلان الجاذِب وكان سببا في معرفتي بأحمد مطر - 

قلت له : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فضلا أُريد أن أسألك حول أمرٍ ما ؟ 

حمدي : تفضّل 

- لو سمحت هل تعرف مقرّ إقامة أحمد مطر ؟ 

- فتّشتُ عنهُ في لندن فلم أعثر عليه ! .

لكني لم أيأس سألت عددًا من المثقفين السؤال نفسه فكانت إجاباتهم:

لا أعلم ، اذهب إلى السفارة العراقية حتى تجد مُبتغاك ؛  لم أذهب للسفارة العراقية لعلمي المسبق بأنه حصل على الجنسية البريطانية  ولموقفه من السلطات العراقية ،  وأحدهم يردّ ساخرًا : إذا قابلته سلم لي عليه   ، خاب أملي بعد تلك الإجابات ..

كل ما أعرفه أنّهُ يقطن في لندن ولكن في أي ضاحيةٍ من ضواحيها ؟ وكلي أملٌ  أن أعيده إلى المشهد الثقافي العربي  وتسجيل سيرته الأدبية للأجيال اللاحقة . عرفت بعد أشهر أنه يسكن في ضاحيةِ ويمبلي أقصى غربِ لندن يصارع المرض والغُربة مع أفرادِ عائلتهِ : علي دكتوراه في المونتاج السينمائي ، حسن ماجستير في السينما  ، زكي لايزال طالبًا ، وفاطمة طالبة في إحدى الجامعات البريطانيّة .

في ضحى يوم الخميس ١-١٠-١٤٣٤هـ أول أيام عيد الفطر المبارك الموافق ل ٨-أغسطس-٢٠١٣م أخذت القطار وحيدا دون أصحابي -على غير العادة - من برايتون جنوب انجلترا إلى أقصى غرب لندن (ويمبلي) لمقابلة أحمد مطر ، ذهبت متأنقا بملابس العيد آملا بأن يكون عيدي عيدين و أن أجد الوجه الآخر للعملة الذهبية النادرة بعد أن طمس إحدى أوجهها في زمن ماضٍ كان رسمها / ناجي العليّ ! 

وصلت بحمد الله إلى ويمبلي ولأول مرة أزورها في حياتي أمشي وحيدا في ضاحية مليئة بالإثنيّاتِ العرقية كالهنود والعرب و الفرسِ وغيرهم . أمضيت ساعات طوال أسأل العرب والعراقيين المقيمين هناك على وجه الخصوص -ومنهم من له أكثر من عشر سنواتٍ مقيما في تلك الضاحية - عن أحمد مطر كانت إجاباتهم / لانعرفهُ لأول مرة نسمع عنه ، لا ندري ، اترك لنا رقم هاتفك وسنتصل بك إذا علمنا عنه أي معلومة ، قال لي أحدهم : اِذهب إلى المسجد الكبير حيث العرب يصلون هناك والعراقيين على وجهِ أخص ، ذهبت لذلك المسجد ولكني لم أجد أي أثرٍ لعراقي لم أجد مُبتغاي يأستُ ورجعت بخفّي حنين ..

وبعد أيام من وصولي لبرايتون اتصلت على ذلك العراقي الذي قال : اُترك لنا رقم هاتفك .. سألته عن أحمد مطر فكانت إجابته : سألت عنه ولم أحصل على معلومةٍ واحدة ..!

خاب أملي ؛ لأنّي  لم  أعثر على ذلك الرجل الملثم بلثام الآلام والأحلام ..! 

ويبدو أن السبب الرئيس في عدم عثوري عليه هو أن العملة لا يكون لها قيمتها إلا بوجهين ؟!!



* كلما حاولت الكتابة عن أحمد مطر، قفز الورق وتشكل كخارطة العالم العربي و...احترق !!

الاثنين، 16 سبتمبر 2013

The Golden Mirage




The Golden Mirage




One day, in my dream ..
I saw her ..
with  golden hair ..
I do not remember where ..
Her face illuminated by golden frame ..
I have never seen anything like her wear.. !
-------------------

While the clouds above her …
She whispered to me ..
Please embrace me ..
I asked her , May I know ?
Who are you , now ?
I want lucidly answer like snow ..
She cried when I saw her eyes..
She sang : Why do you forget me prince of guys ?
When you wake up go to the golden mirage  prince of my eyes
Then , just shout when you arrive there ..
I said : I promise you I will go to everywhere ..
I hope see you there..
Like golden stars and rays ..
--------------
When I walked to the  mirage , my mind has remembered  huge civilization..
I smiled "jasmine" roses , green heavens and great population..
My environment which surrounded me has changed to brilliant activation..
When I arrived to the golden mirage , I read a few words ..
Then , I shout to pay attention all the worlds ..
My dream girl was "Ana Narya"
She is from an area
Which was called "Andalusia"
……………
All what I wrote
Like the golden mirage ..
And a black pain note !



19-august-2013
England-Brighton



الأحد، 25 أغسطس 2013

دراما موت "الموت "



طفل جريح يصرخ للسماء ؛ فيصمت العالم ليرى دراما موت "الموت " !
.......


 يُقتل الأطفال و النساء و الرجال في سورية لا ليموتوا؛ بل ليحيوا من جديد عند رب 

الأرض و السماء

دماؤهم أنهارعذبة صافية  في السماء ، صرخاتهم أناشيد ضياء في السماء

دموعهم تسقي الورود والبساتين الفواحة الخضراء في السماء

أيها الشهداء أخرستم  العالم بدراما موت "الموت " !




  إنجلترا 22-8-2013م







السبت، 23 مارس 2013

فيروس ..الابتسار !












ينتشر مرض القطيعة و التناحر على كافة الأصعدة سواء كانت : سياسية ,  اقتصادية , ثقافية ..الخ. المتأمّل جيدا يرى أنّ من أهمّ  الأسباب التي أدّت إلى زيادة انتشار  ذلك المرض هو فيروس الابتسار الذي تكاثر بشكل أكبر في وهج التفاعل مع مواقع التواصل الاجتماعي . فمثلا نجد أن كلّ طيف يبتسر  كلاما مجتزءأ  من مقطع  يوتيوبي أو جملة مقتضبة من كتاب أو تغريدة ينتزعها من سياقها الدلالي  ليكون سلاحا يوجّهه إلى الطيف الآخر الذي يختلف مع الفكر أيا كان ذلك الفكر .

ذلك الفيروس يأخذ سمة التحوّر السريع ولايمكن حينها السيطرة عليه خاصة في الأزمات السياسية والفكرية الكبرى التي معها تتصادم الرؤى والأفكار  حول  تلك الأزمات . ينقلنا ذلك الفيروس من الاتّحاد إلى التضاد ومن الاجتماع على طاولة الحبّ والحوار تحت إطار مشترك ألاوهو بغية الحق إلى التّخندق في جزر التنظير بلا تأطير فحينها سيعلو الصياح والضجيج والصخب وستتداخل الأصوات مع  بعضها  البعض  فلا نميّز أي ا لأصوات أعذب وأطرب ونسمع جعجعة ولانرى طحينا  وندورفي دوائر الاتهام والغضب بلا فائدة .

-أكاد أجزم بأنّ قليلا من الهدوء الفكري و العقلي في طريقة طرح آراءنا كفيلة بالقضاء على ذلك الفيروس ..

ومضة :

أحيانا النصّ هو الكائن الوحيد القادر على التغيير .

الجمعة، 1 فبراير 2013

قراءة في النباهة و الاستحمار للمفكر الإيراني علي شريعتي




الانعتاق من أسْر البيئة الفكرية المكوّنة لعقل النخبوي الذي يعيش في بيئته  له تبعاته الخطيرةعلى  المستويين العامي و النخبوي .في تلك الحالة ، المنعتق يكون في حالة مواجهة مع الجماهير  و النخبة ؛ لأنه  يغيّر من طرق التفكير الأصلية  التي اعتادت النخبة على اتخاذها كمنهج تبني عليها قراراتها ورؤاها ومنهجيتها في التعامل مع الآخر . المفكر الإيراني علي شريعتي واحد من هؤلاء الذين حاولوا إصلاح البيئة الفكرية التي نشأ فيها  من خلال اتخاذه طريقة خاصة في منهجية التفكير وبالتالي  بنى على تلك الطريقة تعامله مع الآخر . كذلك النظرة  للأحداث التاريخية بحياد وموضوعية أمر في غاية الصعوبة  في البيئات الآيدلوجية  التي لاتقبل إعادة النظر في التاريخ . علي شريعتي واحد من الذين استخدموا النظرة الموضوعية والحيادية في بعض الأحداث التاريخية في تاريخ الشيعة . في هذا المقام لست بصدد إلقاء نظرة شمولية ودقيقة وفاحصة على ذلك  المفكر - النّابه- ؛ لأن المقام لايتسع ولكني قررت أن أقدّم قراءة لواحد من أهم مؤلفاته وهو : "النباهة والاستحمار"  الذي هو في أصله  محاضرات أقامها في حسينية الإرشاد بإيران .



 يطرح عدّة إشكاليّات حول الحالة الخاصّة التي تعيشها أي أمة متخلّفة على المستويات المختلفة . يؤكّد على أهميّة عدم الرضا ويحذر من التوهم بأننا مغتنين فكريّا بالكفاءة العلمية ؛لأن الرضا بالاغتناء الفكري قد يصنع وهم الكفاءة الزّائفة . النباهة تتطلب أن يكون المرء في بحث دائم وسعي دؤوب ولا يقف عند رضا معين من المستوى العقلي .   أفراد الأمّة الناهضة والمتفوقة  يكون أفرادها في بحث دائم وسعي دؤوب  ولايقفون
عند حدّ معيّن من الأفكار والرؤى .يرى شريعتي بأن" المتعلّم قد يبقى جاهلا وأخرس وأعمى لأن الإنسان إذا أُُ شبع بالعلم لم يعد يشعر بالجوع الفكري حيث ينظر إلى قضايا العلم منفصلة عن قضايا الفكر" .

وهنا أتذكر مقولة للفيلسوف والرياضي الفرنسي باسكال (1623م-1662م) :"مرض الإنسان الطبيعي أنه يمتلك الحقيقة " يشير إلى أن : ادّعاء ملك الحقيقة الكاملة والواحدة قد يُسهم في صناعة الزيف الذي هو( المرض) على مستوى القضايا الفكرية التي تتغيّربتغيّرالزمان والمكان .


- المجتمع الذي يرتبط بهدف عال و الذي يُحرّكه ُ العقيدة و الإيمان يتفوّق على كل قدرة ؛ لأن الإيمان و العقيدة أقوى من أي شيء.إذ هما ركيزتان يجب أن تعتمد عليهما أي أمّة لبلوغ المجد ومواكبة الركب الحضاري . يمكن استخلاص أسباب إيقاظ العقول من السّبات العميق من البيئة ذاتها التي نشأت عليها تلك العقول من خلال إعادة قراءة الأشياء التي أسهمت في تكوين تلك العقول وإزالة الغبارعنها لتكون أكثر ملائمة للواقع و متطلباته .

-يرى شريعتي بأن الأديان الوراثيّة كلّها متشابهة من ناحية أن الذي يُتّخذ وراثة وسنة واعتيادا من غير علم ولا بصيرة يكون شيئا واحدا في النهاية ويكون معرّضا للتمرّد من قبل الأجيال التالية .وإذا أمعنا النظر في كثير من القضايا المستجدّة التي تحدث في مجتمع ما - أيا كان ذلك المجتمع- الذي يتّخذ أفراده الدين وراثة من غير علم ولا بصيرة فإنه ينطبق عليها تماما ماذهب إليه شريعتي ألا وهو يكون التمرّد مصير ما ارتبط بعادات وتقاليد مؤقتة وهي ممّا لاشكّ فيه معرّضة للتغيّر مع مرور الزمن والشواهد من حولنا كثيرة .

-"إن قيمة كل واحد منّا على قدر إيمانه بنفسه " ص30 هنا يؤكد شريعتي  بأن إعلاء مستوى الإيمان بالقدرات في داخل أعماق الإنسان ينعكس بالضرورة على القيمة الفردية له بمجتمعه .  النباهة يقسّمها إلى قسمين :
نباهة نفسية أو فردية ونباهة اجتماعية ويرى بأن ّ العدو الحقيقي للإنسان هو الذي يسلب تلك النباهتين و من دلائل التخلّف لأي أمة هي أنها تكون مسلوبة للنباهتين الآنفة الذكر ومغيّبة بوعيها ولا تدري بأنها مسلوبة و اتّباع الهوى لأفراد أي أمة تكون معرّضة  لذهاب العقل والوعي.. ورحم الله شوقي إذ يقول :

إذا رأيت الهوى في أمّة حكماً    فاحكم هنالك أنّ العقل قد ذهبا .

-المتأمّل في سير الجباهذة والعظماء من مفكرين والفلاسفة يرى بأنّ هناك مشترك بينهم وهو الوعي والفطنة والنباهة منذ الصغر  ولنأخذ مثالا على أعظم شعراء العرب  المتنبي قال في صباه :
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي  وبنفسي فخرت لا بجدودي
ويقول
أنا تِرْب الندى وربّ القوافي   وسمام العِدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله          غريب كـصالح فــي ثمود
تلك الأبيات قالها المتنبي في صباه وهي دلالة على وعي الفتى ونباهته لذا أصبح من الخالدين ومصدر إلهام لكل من أراد الحكمة والفطنة والوعي .

-يقول شريعتي :" الاستحمار أصبح في عصرنا الحالي معزّزاً بالعلم والإذاعة والتلفاز والتربية والتعليم صار فنا دقيقا ومن هنا يصعب معرفته لصعوبته ودقّته "  أي أن أي غرض يمكن استخدامه لإجل الإلهاء والاستحمار .فمعني الاستحمار كما يراه : "تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره وتغيير مساره عن النباهتين الفردية والاجتماعية " ويرى بأن الاستحمار ينقسم إلى قسمين :  استحمار قديم و استحمار حديث  

لأجل تطبيق الاستحمار القديم  يُستفاد من  : الشعر , تعظيم الماضي  .....الخ  ولأجل تطبيق الاستحمار الحديث يُستفاد من : التخصص , المرأة ...الخ  "

الشعر قد يكون أداة للاستحمار أي أن ماقد يكون جميلا شعريا قد يكون قبيحا ثقافيا من خلال تغلغله بالثقافة المجتمعية .إذا تشعرنت أي قيمة مجتمعية فإنها قد تكون قابلة للكذب الجمالي فبالتالي تتعرّض لزيف وخداع وينتقل ذلك الزيف لأفراد المجتمع  .
تعظيم الماضي يكون أداة للاستحمار من خلال البحث عن المآسي والنزعات التاريخية وأسْر العقل بأمجاد الماضي وتغييبه عن الحاضر .
يرى شريعتي بأن إثارة قضايا المرأة يعدّ نوعا من أنواع الاستحمار إذا كان القصد إثارة قضاياها من أجل الإلهاء عن قضايا أكبر وأهم من قضايا المرأة . ويرى بأن الانغماس في التخصص والغوص فيه  قد يُفقد الإنسان الدراية الاجتماعية إذ يعمل التخصص على نمو الفرد من جهة واحدة ويعطله من بقية الجهات والتخصص بلاشك مطلوب ولكن يجب أن لايعطّل الدراية الاجتماعية والنباهة الفردية .

- للاستحمار شكلان : مباشر و غير مباشر فالمباشر هو ما يحرّك الأذهان إلى الجهل و الغفلة ..أما الغير مباشر : هو إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية اللافورية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسيّة وأداة استحمار أي شخص ترتبط بنوعه فمثلا : إذا كان شخص ما يهتمّ بـ "س" من الاهتمامات فإن العمل على زيادة اهتمامه بها يعدّ نوعا من الاستحمار شريطة أن يكون من أجل إلهائه عن المطالبة بالحقوق الكبرى ..

-تعجّبت عندما علمت بأن صاحب هذا المؤلف.. المفكر التجديدي علي شريعتي اُغتيل عام 1977م أي قبل أكثر من ثلاثين عاما في منفاه ببريطانيا . كأن المؤلف يعيش بيننا اليوم .  هلا عرفتم  يا قرّائي الكرام قيمة الكتب الفكرية الفلسفية فإنها تبقى خالدة في التاريخ وتحكي  مستقبل  الأيام  لأن العقل والبصيرة  مصدرها .

ومضة :
كلّ حكمة تقال في الزمن الحالي قد قيلت في الزمن الماضي ولكن بصورة مختلفة وكل حكمة قيلت في ثقافة ما حتما سنجدها في ثقافة أخرى ولكن بصورة مختلفة ..!

الثلاثاء، 29 يناير 2013

عاجـل..!

 


كثيرا ما أُتابع نشرات الأخبار  الغربية  والعربية وأرى كلمة عاجل فيها فمثلا عندما ترى تلك الكلمة -المثيرة للانتباه- في نشرات الأخبار الغربية فإنها غالبا تشير إلى :

اكتشاف جين يساعد  العلماء  للقضاء على مرض ما , شركة تُفصح عن منتج جديد لها  كما يحدث مع شركة آبل , إطلاق صاروخ إلى الفضاء بنجاح , فوز العالم الفلاني بجائزة نوبل...الخ .


وعندما ترى عاجل في نشرات الأخبار العربية فإنها غالبا تشير إلى :

مقتل عشرون شخصا في اشتباكات مُسلّحة , انفجار في مكان ما وجماعة تعلن مسؤوليتها عن ذلك الانفجار , اغتيال أو اختطاف لشخصية هامة , اعتقال شخص ما بسبب قول أو فكرة ...!!

- هلّا لاحظتم الهوّة الدلالية لكلمة عاجل في نشرات الأخبار بيننا وينهم !

ومضة :
إذا سمعت كلمة عاجل في بلاد الغرب فإنها تعني الحياة وإذا سمعتها في بلاد الشرق فإنها تعني الموت .. !!