في العقودِ الماضية شغلت قضيّة تشويهِ العرب والمسلمين في أفلام (هوليوود) حيزًا من الاهتمامِ و المناقشة لدى بعض النقادِ والنخب الثقافية التي تهتمّ بثقافةِ الصورة وتأثيرها
في عقل المتلقّي ؛ ولكنها غفلت عن السرقة (الناعمة) والهادئة التي تقوم بها أفلامُ (هوليوود) من خلالِ ما يلي :
١-إنتاج واحتكار أفلامٍ لقصص تاريخيّة واقعيّة لدولٍ أخرى وخاصة دُول العالم الثالث .
٢-تحسين وجهة النظر الأمريكية وتلميعها إزاء القضايا والأحداث التاريخية وعدم عرض وجهة النظر المُحايدة .
٣-تزوير بعض الأحداثِ التاريخية .
٤-إظهار الدول التي لا تمتلكُ إنتاجا سينمائيا قويًّا وأبطالها التاريخيين بصورة قاصرة و مبتسرة .
تلك السرقة (الناعمة) لها عظيمُ الأثر في تشكيلِ رأي المتلقي حول الأحداث ؛ لأنّ ثقافة الصورة السينمائية السحرية أقوى من صفحات ووثائقِ التاريخ فمثلا : عندما نقول عمر المختار فإن الذهن بصورة تلقائيّة سيذهب مباشرة إلى عمر المختار الذي في الفيلم لا عمر المختار الذي في صفحات كتب ووثائقِ التاريخ وهذهِ الصورة الذهنية ستبقى دائمة ومستمرة إلّا إذا قابلتها صورة مُماثلة في القوة و التأثير أي : إنتاجُ فيلمٍ آخر يحكي سيرة عمر المختار .
في عامِ ١٨٣٩م قامت ثورة (الأميستاد) عندما قام العبيدُ بتحريرِ أنفسهم أثناء عمليّةِ نقلهم من كوبا إلى أمريكا .يُشير المؤلف الأمريكي (جيرالد ف.ديركس )في كتابه : المسلمون في التاريخِ الأمريكي :إرث منسيّ -والذي ترجمه الدكتور سعد البازعي - إلى وجودِ رجال مسلمين كان لهم دورٌ مؤثرٌ وبارزٌ في تلك الثورة الناجحة .
أخطأ (ستيفين سبيلبيرج) الذي أخرجَ فيلما تحت مسمى (Amisted) أميستاد عام ١٩٩٧م يحكي تلك الواقعة ؛ لعدمِ تطرقه لدور المسلمين البارز في تلك الحادثة .ذلك الفيلم حقق نجاحات واسعة ؛ ولكن ذلك الخطأ الذي قام بهِ المخرج سيبقى في ذاكرة المتلقّي ولن يمحى من ذاكرة التاريخ إلا بفيلم آخر يقابله ؛ لأنّه عندما تقول للمتلقي حادثة -أميستاد- فإنّ الذهن سينصرف للقطات فيلم (سبيلبيرج) لا لصفحاتِ كتاب (جيرالد ف.ديركس) .
ثمّة أفلام أخرى تنتجها (هوليوود) ويكون مضمونها عرض القضايا الدولية التاريخية للولاياتِ المتحدة الأمريكية مع دول أخرى وليتها تكتفي بعرض القضية فحسب ؛ولكنها أيضا تعرض تعريفا لتلك الدول ضمنا في تلك الأفلام حسب وجهة نظرِها وقد لا تتفق معها تلك الدول في ذلك التعريف تماما كما حصل مع فيلمي (Argo) آرجو و (The kingdom) المملكة . فالأول يتحدّثُ عن قضيّةِ اختطافِ الدبلوماسيين الأمريكيين بإيران وكيفية تحريرهم بنجاح ولم يكتفِ الفيلم بعرضِ القضية فقط وإنّما أعطى نبذة تعريفية عن إيران في بداية الفيلم تلك النظرة سترسخ في ذهن المتلقّي لأمد طويل كون الفيلم حقق الأوسكار في فئة أفضل فيلم و قد لا تتفق إيران مع طريقة عرضِ تلك النبذة .
وكذلك الأمر مع فيلم (the kingdom ) المملكة كانت قضية الفيلم الرئيسيّة كانت تتمحور حول التفجيراتِ في إحدى المجمعات والتي يسكنها أمريكيون فترسلُ الولايات المتحدة فريقاً من FBI لعمل تحقيق في تلك القضية ولم يكتف المخرج بعرض القضية وإنما أيضا عرضَ نبذة تعريفية قاصرة ومُبتسرة عن السعودية في ذلك الفيلم في وضعٍ مُشابه لما حدثَ مع فيلم آرجو .
تلك السرقة (الناعمة) لم تقتصرعلى الأحداث التّاريخية فقط وإنّما امتدّت يدها لتنتج أفلام السير الذاتية للأبطال التاريخيين تماما كما حصل مع فيلم (Breaveheart) قلب شجاع الذي يحكي قصة البطل التاريخي لأسكتلندا" ويليام والاس"، أصبح الاسكتلندي الذي يفتخر بويليام والاس إذا أراد أن يُعرّف به لأي شخصٍ آخر فإنه سيقول له :شاهد فيلم قلب شجاع وذلك الشخص سيُشاهدُ فيلما اسكتلنديا شكليا ؛ ولكنه أمريكي إنتاجا وتمثيلا و كتابة وهذا يعني أن أمريكا احتكرت بصورة غير مباشرة سيرة ذلك البطل الأسكتلندي وربطته بها تاريخيا عن طريق ذلك الفيلم ..!
استغل أيضاً منتجو (هوليوود) أحداثا تاريخيّة وقعت في دول العالم الثالث وعملوا منها أفلاما حققت نجاحاتٍ باهرة تماما كما حصل مع فيلم فندق رواندا (Hotel Rwanda) الذي يحكي قصة الحقبة الزّمنية للحرب الأهلية بين قبيلتي (التوتشي ) و (الهوتو) وتمّ إنتاجه أمريكيا خالصا ؛ بالرغم من أن الأحداث لا تمت بأي صلة لأمريكا .
لم تسلم بعض الأحداث التاريخيّة الهامّةِ في الدول العظمى كألمانيا من تلك السرقة ؛ إذ تمّ إنتاج عام ٢٠٠٨م فيلم (فالكيري) والذي يحكي قصة واقعية لمحاولة اغتيال هتلر كان أيضا أمريكيا كتابة وإخراجا وإنتاجا ولغةً ..!
أظنّ أنّ معظم دول العالم تعرّضت ولاتزال تتعرّض لتلك السّرقة (النّاعمة) ؛ باستثناء الهند إذ مُعظم أفلامها التاريخية إما أن تكون إنتاجا مشتركا تماما كما حصل في فيلم (غاندي) إذ تم إنتاجه بشراكةٍ هندية-بريطانيّة وتم عرضه باللغتين الإنجليزية و الهندية أو أن يكون إنتاجا هنديا محضا (بوليووديا ) ..!
إنّ ضرورة إيجاد صناعة سينمائية حقيقيّة باتت ضرورة ليس للترفيه وإنما أيضًا ؛ لقطع تلك اليدِ السّارقة لثقافةِ الصورة السينمائيّة (التاريخيّة) للدول إنتاجاً ولغة وهُويّة ؛ ولأجلِ كسر الاحتكارِ الأمريكي لأرشفة الفنّ السابع لأحداثِ التاريخ في العالم وحتّى نصوغ أحداثنا التاريخية بصياغتنا نحن " لا بيد عمرو"!تلك الأمثلة من الأفلام استعرضتها ؛ كي أبيّن أنواع تلك السرقة (الناعمة) حتى وإن كانت غير متعمدة من منتجي هوليوود فإني هنا أصفها ، وقد لا ندرك أثرها إلّا على المدى البعيد
وأخشى ذلك اليوم الذي يُقال فيه :
حدثنا عن ذلك الحدث التاريخي (الفلاني) في بلدك ؟ -فيكون جوابنا شاهِد الفيلم الأمريكي (الفلاني)