تأملتُ كثيرا الحروب و النزاعات المذهبيّة و الطائفيّة العرقية في العالم العربي ؛ وجدت أنّ مُعظم تلك النزاعات والحروب ترجعُ بالأساس إلى مأزقٍ أزليّ هو : التأويل !
كيف ذلك ؟
عندما نرجعُ للماضي ونسبر أغواره ونفحص أخباره ونقلّب صفحاته جيدا ، سنجد أنّ معظم تلك المذاهب والطوائف والفرق نشأت أساساً على أيدي علماء ورجال صالحين اجتهدوا في تأويلِ -نصوص دينية - معينة وكان لأولئك العلماء طلاب علمٍ نشروا ذلك الاجتهاد -الذي قد يكون معتبراً بين أفراد منطقة أو إقليم ذلك العالم ومع مرور الزمن تتشكّلُ تلك الطائفة التي أساسها أصلا ذلك العالِمْ !
ومعظم تلك الفرق والمذاهب في بداية نشأتها لم تكن في حالةِ صدام وصراع ونزاع فيما بينها ولكن مع مرور الزمن تبدأ الطائفة بالتمسّك والتعصّب لرأيها -وقد يكون ذلك مبرّرًا - فهي إمّا أنّها قد تعرّضت لتهميشٍ وجورٍ من قبل الحاكم في حقبة زمنية معينة أو أنها تعرّضت لاضطهادٍ من طائفةٍ أخرى هي أعلى شأنا وسلطة من تلك الطائفة التي تعرضت للظلم .
امتدّت تلك الصراعات التاريخية المذهبية والطائفية -التي من أهم جذورها وأساسها : اختلاف في التأويل - بشكل مباشر على العالم العربي في العصر الحديث وبالأخص الفترة الراهنة التي نعيشها الآن .
مرّت تلك الخلافات والنزاعات المذهبية والطائفية بمرحلة الكمون خلال فترة العروبة ؛ إذ كان معظم العرب تحت ظلال راياتها وشعاراتها البرّاقة . ثمّة أسباب سياسية خارجة عن إرادة العرب كان المتحكّم الرئيس فيها أقطاب العالم في الشرق و الغرب أدّت إلى انفجار تلك الخلافات والنزاعات إلى أن وصل حالها ل :
وكلّ يدّعي وصلًا بليلى
وليلى لا تقرّ لهم بذاكا
أي أن كل طائفة تدّعي -بتعصّبٍ مقيت- أنها على حق ممازاد لهيب الفتن والاضطراب و الاقتتال !
تتشكل الطوائف والمذاهب و الفرق المنبثقة عن الأديان السماوية على نحو متشابه، و سأضرب بثلاثة أمثلة على طوائف مختلفة تماما في العقائد لكنها متشابهة في كيفية التشكّل من الأديان الثلاثة : المسيحية ، اليهودية والإسلام
في المسيحية مثلا : أنشأ جوزيف سميث (١٨٠٥م-١٨٤٤م) على يديه طائفة المورومونية ويؤمنون بكتابِهم المقدّس (المورمون) الذين كتبه . نظرا لتعرضهم لمضايقات وأحداث عنف قاموا بتأسيس مدينة (نوفو) في ولاية إلينوي وخاضوا عدة حروب أهمها حرب يوتاه بينهم وبين الحكومة الأمريكية في ولاية يوتاه إذ تعرّضوا لعداء في تلك الولاية وتمردوا على حاكم الولاية فنشبت تلك الحرب وانتهت بمصالحةٍ مع حاكم الولاية الجديد بعد أن ضمنوا مصالحهم، وبعد أن كانوا مجموعة صغيرة في ذلك الوقت اليوم أصبح عددهم قرابة ٧ ملايين حول العالم .
وفي الإسلامِ مثلا : قام عبدالله بن أباض التميمي بتأسيس مذهبِ الإباضية يعتمدون في الأحاديث على مسندِ : الربيع بن حبيب ، خاضوا عدة حروب و حكموا أجزاء من الشمال الإفريقي وأسسوا الدولة الرستمية تقريبا في فترة ما بين عام ٧٧٦م إلى ٩٠٩م
والآن ينتشرون في بعض الدول العربية وفي عمان تحديدا وتعتمد المذهب الإباضي كمرجع رئيس للدولة .
وفي اليهودية مثلا :قام موسى دي ليون (١٢٥٠م -١٣٠٥م ) عام ١٢٨٠م بتأليف كتاب (الزوهار) أثناء أزمة اليهود في إسبانيا نتج عن ذلك تكوّن طائفة جديدة اسمها : الكابالا ويعتبرون كتاب الزوهار المرجع الرئيس للطائفة و يبلغ عددهم قرابة ٢٢ مليونا في العالم .
وما ذكرت هو على سبيل المثال لا الحصر، للتشابهِ في طريقة تكوّن الطوائف التابعة للأديان السماوية الثلاثة . وبالنظر للأمور المشتركة الظاهرية المتشابهة للتشكّل كاتباع رجل الدين و تأليف مرجع للطائفة وغيرها
، فإننا سنجد بأن ثمّة سبب رئيس للتشكّل الطائفي في تلك الأديان قد لا نراه ألا وهو : الاختلافُ في التأويل !
يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (١٨٤٤م-١٩٠٠م) : ( لا توجد حقائق ، بل فقط تأويلات ) وكأنّهُ بهذه المقولة يصف تماما تعدّدِ ادّعاءات البشر لامتلاك الحقيقة وأن كلّ ما هو حولنا نتاج اختلاف في التأويل !
رأى بعض المفكرين العرب بأنّه لا حلّ لتلك الخلافات إلّا بالقطيعةِ (الأبستمولوجيّة) لا مع ما نتج من اختلاف التأويل من حروب ونزاعات في الزمن الماضي ؛ بل مع الموروث الديني كلّه وهذا غير مجدٍ في أساسه لا لاستحالة تطبيقه على العقل العربي فحسب وإنما لسبب :
أن مأزق التأويل أزلي ولا فكاك منه حتى مع تلك النظريات المعرفية البنائية الجديدة البديلة للموروث الديني (.. ولايزالون مختلفين... )
-العالمُ نصّ ومأزِقهُ الأزليّ التأويل !
٩-٤-١٤٣٥هـ
١٠-٢-٢٠١٤م