الأحد، 20 أبريل 2014

ملامِح هُويةِ العالم الجديد وأثرها على الفكر .











في عام ٢٠٠٤م ألّف المفكر الدكتور / عبدالله الغذّامي كتابه الموسومِ ب : الثقافة التلفيزيونية :سقوط النخبة وبروز الشعبي ، حيث قال فيه بسقوط النخبة في ذلك الزمن الذي يتلقى فيه الشعبي الصورة واليوم تحوّل الأمر فأصبح الشعبي هو الذي يتحكم بالصورة وقادرا على صناعة الحدث عبر وسائط العالم الجديد ك: تويتر ، فيسبوك ، يوتيوب ..الخ ؛ إذ ثمة أسئلة تلوح في الأفق حول نتائج ذلك التحول وأثره على ملامح هُوية العالم الجديد وتأثيرها على المستوى الفكري ؟

يصعبُ جدا أن نحدد وصفًا دقيقاً لهذا العالم الذي تدفقت فيه المعلومات وأصبح الإنسان البسيط هو الذي يصنع الحدث ؛ نظرا لامتلاكهِ في كفّه وسائط الإعلام الجديد :تويتر ، فيسبوك ويوتيوب وغيرها ..الخ ؛ ولكن نستطيع أن نعطي ملامح لهذا العالم التواصلي الجديد وأثر تلك الملامح على المستوى الفكري :



١-بثّ الفكرة وصناعة الحدث :

أعتقد أن هذا الزمن يتميز بميزة لم تكن موجودة في أي زمن مضى ألا وهي أن : أي إنسانٍ مهما كان لونه أو جنسه أو دينه أو عرقه وفي أي وقت كان قادر على أن يبثّ ويعرض فكرته للعالم عبر تلك الوسائط الجديدة ،على سبيل المثال : استطاع الأمريكي (تيد ويليامز) أن ينتقل من عالم التشرّدِ إلى عالم النجومية وذلك من خلالِ موهبته الفذّة على تقليد الأصوات الإذاعية القديمة . ذلك الإنسان البسيط بثّ فكرته (تقليد الأصوات الإذاعية القديمة ) عبر اليوتيوب وصنع الحدث وأصبح اليوم من النجوم البارزين في الإعلام الأمريكي .



٢-تقارب الهُويات المتباعدة :

لم يكن في مخيلةِ (جاشو فان الستاين ) ذلك الشاب الأمريكي أن يلقّب في يوم من الأيّام ب : أبي متعب و أن يُحتفى بهِ و أن يتفاعل ويحظى بمكانة خاصة لدى الشباب السعودي .بدأت شهرة ذلك الشاب الأمريكي من خلال المقاطع (اليوتيوبية) التي كان يظهر فيها متقنا للهجةِ السعودية ومولعا بالثقافة الشعبية السعودية فبدا وكأنه من مواليد الرياض أو عنيزة . لا نستطيع أن نغفل تلك الظاهرة الأمريكية :أبو متعب ؛ إذ هو مثال حيّ على تقاربِ الهُويات المتباعدة من خلال الوسائط الإعلامية الجديدة والمتمثلةِ ب :اليوتيوب .

استطاعت مواقع التواصل الاجتماعي أن تؤثر من خلال إعادة تشكيل الهُوية لدى البعيد (ثقافيا ،اجتماعيا وفكريا ) وخير الأمثلة ذلك الشاب الأمريكي -المذكور آنفاً - .



٣-القلق الحكومي من الفرد :-

شكّلت قضية (سنودون) قلقا بالغا لدى الحكومة الأمريكية عندما قام بفضحِ التجسسِ

الأمريكي على بعض الدول مما أدى إلى ملاحقته قانونيا من قبل الحكومة الأمريكية ، وهذا مثال على قلق أكبر دولة في العالم من من ذلك الشاب (سنودون) ،وظهرت الكثير من القضايا المقلقة للحكومات بسبب مواقع التواصل الاجتماعي في العديد من الدول وبالأخص دول الربيع العربي إذ إن المتأمل فيها جيدا يجد أن معظمها بدأت من صفحات (الفيسبوك) والتي أنشأها أفراد بسطاء ؛ لذا أصبحت الحكومات غير قادرة على السيطرة على تلك المواقع والتحكّمِ فيها مما يستلزم عليها أن تعطي تلك المواقع أهمية في توعية الناس وفي كيفية استخدامها الاستخدام الأمثل وأنها أصبحت واقعًا لا فكاك منه .



٤-اتّساع القاعدة المعرفية :

أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي رافدا مهما للتعلم ، إذ أنها أصبحت بعض الجامعات حول العالم تبث محاضراتها عبر اليوتيوب معتمدةً عليه في نشرِ المعرفة وتكاد تصل تلك المواقع إلى دور الجامعات الأكاديمية الرسمية بحيث يكون الموقع نفسه مرجعا ذاتيا للتعليم ،فعلى سبيل المثال :في السويد أُنشئت (جامعة تويتر السويدية )(Svenska Twitterunversitetet ( وتستغلّ تويتر في نقل المعرفة لروادها بدلا من تلك الفصول التقليدية . معظم الطلاب حول العالم أصبحوا بلمسة إبهام أن يحصلوا على أي معلومة وليست بكبسة زرّ كما هو شائعٌ في الوقت الماضي القريب ؛ لذا القاعدة المعرفية توسعت وهذا بدوره قد يؤدّي إلى تقلّصِ الدور الأكاديمي التقليدي في المستقبل .



٥-سيطرة الافتراضي على الواقعي :

بعد إعلان ستيف جوبز إصدار آبل الجديد :(آيفون) ومتجرها ،انهمك معظم الأفراد حول العالم في تلك الأجهزة وصارت شغلهم الشاغل إلى أن وصل حالهم إلى حدّ الإدمان ، ومع ازديادِ عدد التطبيقات على تلك الأجهزة اللوحية سيطر الافتراضي على الواقعي ؛ ونتيجة لتلك السيطرة اضطرت معظم الجهات الحكومية والمؤسسات العلمية إلى إطلاقِ تطبيقاتها على متجرِ آبل ، وفي بعض الدول صار المواطن يقضي خدماته عبر تلك التطبيقات الذكية في الأجهزة اللوحية أي أنها انتقلت من الحكومة الإلكترونية إلى الحكومة الذكية بمجرد لمسة إبهام يستطيع أن يقضي كل احتياجاته .



٦-انكشافُ الأفكار :

أعتقد أن أية فكرةٍ آيدلوجيةٍ أصبجت مكشوفة مساوئها ومحاسنها

وذلك بسبب أن أصحاب الأفكار الآيدلوجية في مواقع التواصل الاجتماعية أخذو في كشف مساوئ الآخر ..مثلاً أصحاب الفكرة الآيدلوجية " أ " يعرضون مساوئ الفكرة الآيدلوجية "ب" والعكس وهذا ماألحظه من خلال مشاهدتي لكثير من المقاطع اليوتيوبية . وبالتالي لا نستغرب بأن من نشأ وترعرع في الفكرة الآيدلوجية " أ " نجده في يوم ما يؤمن بالفكرة الآيدلوجية "ب" بل ويتواصل مع رموز الفكرة الآيدلوجية "ب" .



وأيضا لا نستغرب بأن دولة تحمل الفكرة الآيدلوجية "أ" نصحو في يوم من الأيام ونراها تحمل الفكرة الآيدلوجية "ب" .



كل هذا بسبب مواقع التواصل الاجتماعية التي جعلت الأفكار مفتوحة أمام الناس . باعتقادي إن الفكرة التي تحمل قيم "الخير والحق والجمال " وعرف أصحابها استخدام وعرض الفكرة عبر مواقع التواصل الاجتماعية فسنراها متسيدة للعالم بأسره .



تلك ملامح لهُوية العالم الجديد المقترن بالضرورة بمواقع التواصل الاجتماعي ، ولاندري قد تتغير تلك الملامح بين ليلة وضحاها في هذا الزمن المتغير المتسارع ؛ إذ لم تكن تلك الملامح موجودة قبل ١٠ سنوات أو يزيد ..وهذا دليل على أن العالم في تبدل و تسارع وتغير ولتلك الملامح -المذكورة آنفاً- آثار على المستوى الفكري ومنها :



آثار تلك الملامح :

١-سيطرة الفرد على صناعة وبث الفكرة إذ أصبح قادرا على صناعة الحدث في أي وقت شاء ومن أي مكان .

٢-الإدمان على تلك المواقع وبالتالي أثرت بشكل مباشر على المستوى النفسي والفكري للفرد كتشتيت الذهن مثلا .

٣-تقلّص الأدوار التقليدية للمؤسسات الرسمية سواء أكانت :حكومية أو أهلية .

٤-التأثير السريع والقدرةِ على إعادةِ تشكيل الهُوية لدى الأفراد مهما كانت مسافة بعد المكان والزمان .

٥-تحول الإنسان من دوره التقليدي في الإنتاج و العمل إلى الدور الافتراضي .

٦-رفع مستوى الوعي لدى الفرد ؛بحيث أصبح يتلقى معظم الأفكار عبر تلك الوسائط لا عبر التلقين الذي تعوّد عليه .

٧-سيطرة التعاملات الالكترونية من خلال الحكومات الإلكترونية و التعاملات الذكية عبر الحكومات الذكية مما ينذر بغياب الورق في المستقبل .

- اقتران معظم القضايا الفكرية والاجتماعية والسياسية في المحاكم بسبب ما أفرزته تلك المواقع الاجتماعية بشكل مباشر أو غير مباشر .





ملاحظة : هذا المقال شاركت به في مسابقة صوت التنمية بعمان ونلت المركز الثاني على مستوى العالم  العربي ولله الحمد . 

قراءة تأمُّليّة في قصيدة : السمّ العبقري لجاسمِ الصحيّح !

جاسم الصحيح 

يسيرُ في الشوارع والأزقة ، حافي القدمين ، ثيابه رثّة ، أجعد الشعر ، جاحظ العينين ، قصير القامة ، دميم الخِلقة ، لا يهتمّ لأمور بيته يلتفّ الناس حوله في الطرقات وتحت ظلّ الأشجار ويطْرِقُ عقولهم بأسئلته البدهية مثل  : ما العدالة ، ما الحق ، ما الفضيلة ، ما الخير ؟..الخ
يُشعلُ الدّهشة في أولئك التلاميذ وكأنّه كلّما سار في طريق كانت آثار خطواته استفهامات وتعجبٍ  والناس تلاحقه وتتعجب من تلك الآثار الغريبة الفريدة  لذلك الرجل وتتساءل لماذا آثار تلك الخطوات فقط  لسقراط دون غيره من رجال أثينا ؟!

لكن  حالة الرجل المتجولِ  وصاحبِ آثار خطوات الاستفهام والتعجب لم تدم طويلا وكادت أن تُمحى آثارها لولا تلميذه النابه الأستقراطي و (السّقراطي)  / أفلاطون الذي دوّنها في جمهوريته ..

بعد خسارة أثينا في حرْبِها الطويلة
 ( البلوبونيزيّة) تكوّنت حكومة إسبارطة في أثينا وترأسها (كيرتايس) أحد التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول سقراط في أثينا .  لم يعجبْ  أهل أثينا سقراط ؛ إذِ اتهموه بإفساد أخلاق الشباب وبث الأفكار الغريبة  على عقولهم ، قُدّم للمحاكمة ذلك السبعينيّ الدميم وأُدين بتلك التّهم .

قبل مشهد الختام ، كريتو يرشي السجّان ويقول لصديقه سقراط :
-هيا لنهرب خارج أثينا ؟
يردّ سقراط بهدوء :
علمتكم أن تطيعوا القوانين فلا تخترقوها ويجب أن نطيعها !

في الختام   تجرّع سمّ (الشّكران) وقال  الجلّاد :  امشِ يا سقراط ..
نهض ومشى الهوينا لخطواتٍ ؛ حتى انتهى السمّ لبقية أجزاء جسده وسقط ومات - عام ٣٩٩ قبل الميلاد -بعد أن تجرّع (السمّ العبقري)  كما يراه الشاعر جاسم الصحيّح !

هكذا عنون واستلهم  جاسم الصحيح قصيدته السقراطية الباذخة ووسمها : بالسمّ العبقري
ولنعتِ ذلك السمّ بالعبقريةِ دلالته العميقة والمفتوحةِ ؛ إذ أن المتأمل في ذلك  النعت ومشهد الختام لموت سقراط  ؛ يستنتج بأن الشاعر نعت السمّ بالعبقرية كناية عن رفض سقراط الهروب مع كريتو وقبوله تجرع سم (الشوكران ) ولا يقبل سقراط إلا ما كان فيه حكمة وفائدة وقد يصل (للعبقرية) المجازيّة كما رآها جاسم حتى لو وصل الأمر على  حساب موته .
يقول الشاعر :
سقراط فجر الوعي..فاهتُف باسمهِ
واقرأ حكاية عبقريّةِ سمّهِ
يستفتحُ الشاعر قصيدته _السّقراطية_ ب سقراط ويؤكّدُ على أن ذلك الفيلسوف اليوناني العظيم فجر للوعي الإنساني ؛ إذ على يديه بدأ الوعي والتفكير في ذاتِ الإنسان ومعايير الأخلاق ويصف الكاتب الروماني شيشرون دور سقراط بقوله : ( لقد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض)  أي أنه انتقل  من التفكير  في الطبيعة والكون الذي كان سائداً إلى التفكير في ذات الإنسان وعلاقته بالأشياء  والمعايير الأخلاقية . ويدعونا للهتاف باسمه ولقراءة حكايةِ عبقريّتهِ ، ولاتزال البشرية تهتف باسمه وتقرأ حكاية عبقريَتهِ .

وإذا الحكايةُ توجّتك بنشوةٍ ..
فاشكُر مع العنقودِ عاصرَ كرْمهِ ..
السمّ علّمك (الطريقةَ) ، فانطلِق ..
في السّالكين على طريقةِ عِلمهِ ..


إذا حكاية ذلك الفيلسوف العظيم سقراط وفلسفته أدهشتك وتوجتك بنشوة معرفةِ : الخير والحقّ و الجمال والأخلاق وأطرقت أبواب الأسئلة المفتوحة ؛ فاسلك طريق ونهج ذلك العقل الفلسفي الحرّ المتسائل فهو الطريق الذي مهّد للبشرية الاكتشاف والمعرفة .

السمّ ليس سوى كتابِ تمرّدٍ ..
والفلسفاتُ تخرّجت من كُمّهِ ..
السمّ شيخُ المرشدين إلى الهدى ..
ما انفكّ يفشل في هدايةِ قومهِ ..

سُقراط لم يكن سوى شخصٍ متمرّدٍ في نظرِ أهلِ أثينا ؛ ولكن تمرّده (الجميل) له أثر عظيم في التاريخ الفلسفي و الفكري للبشريّة الذي أصلهُ قد خرج من تلك الأحاديثِ والاستفهامات التي كان يزرعها في عقول التلاميذ ويرميها في طرقات أثينا وتارة تكون كأنها  آثار  لخطواته -السقراطية- فيلاحقه التلاميذ   .
 يشيرُ ويلمح الشاعر في قوله : ما انفكّ يفشلُ في هدايةِ قومهِ ..
إلى أنّ كلّ عصرٍ  فيه حكاية تمرّدٍ تشبه حكاية سقراط ؛ فكل  إنسان يأتِ بفكر جديد يجابه بالرفض والشجب ويخفقُ في هداية قومهِ وأن هذا الأمر أزليّ ، والتاريخ لايزال يسجل هذه القصص التي لا تنتهي والتي كان سقراط أحد ضحاياها .

شيخٌ تبتّل للسؤالِ فلمْ يجِدْ
في الأرْضِ أقدسَ من شريعةِ حكمهِ
ما انفكّ يحلمُ بالحقيقةِ آثماً
من فرْطِ ماهو مارقٌ في حلمهِ
لا بدّ من إثمٍ إذن ..فحقيقةُ ال
إنسان تبدأُ من حقيقة إثمهِ ..


يستمرّ الشاعر في عزفهِ الوصفيّ الفريد لحياة سقراط ؛ إذ كان السؤال هو شريعته المقدسة ومنهاجه الذي اتخذهُ لتوليد الأفكار لدى تلاميذه . يشير الشاعر بأنّ ما قد يرتكبه الإنسان من ( فعل جديد ) ؛ كي يبحث  عن الحقيقة قد يكون آثما من وجهة نظر أخيه الإنسان الآخر الذي تعوّد النظر للأمور بنظرة اعتيادية صرفة ، وغالبا يكون ذلك الفعل الجديد )-الإثم- قد تكون هي الحقيقة الجديدة المكتشفة ولا يؤمنُ بها أصحاب الفكر التقليدي و الاعتيادي إلاّ  لاحقاً .


مالدفءُ يسْري في صحيفةِ كاتبٍ ..
إلّا الذّنوب تبخّرت من لحمهِ ..
والفنّ حيث الآدميّة ترتدي ..
ثوباً على قدرِ الجمالِ وحجمهِ ..

هنا يلمح الشاعر بأن الأفكار القوية والصادمة والجديدة التي يضعها أي كاتب جريء متسائل في صحيفته تكون دافئة؛ كأنها نتاج غليانِ التفكيرِ الداخلي الحرّ المنطلق في عقله ، وأن الفنّ إنسانيّ هويته ومهمتهُ الأزلية  بث الجمالِ في هذا الكون الفسيح .



كُن شيخَ ذاتك كي تكون مقدّسًا ..
لا شيخ غيرك يحتويك بختمهِ ..
وابصُم على دنياك بصمة مُخرجٍ ..
حُرّ توزّع في مشاهدِ (فلمهِ) ..


يقول سقراط : (اعرف نفسك ) وهنا شاعرُنا في سقراطيّتهِ يقول : (كن شيخ ذاتك ..) ؛ لكلّ إنسان طبيعته الفريدة وخصائصه وموهبته التي تميزه عن الآخر ويجب أن يستنكهَ و يكتشف الإنسان تلك الموهبة التي أودعها الله عزوجل فيه وأن ينميها حتى تكبر ويكون له من خلالها بصمة مؤثرة في هذه الحياة ، ولا أحد يستطيع أن يساعدك على اكتشافها إذا لم أنت تساعد نفسك فأنت أعلم ما بنفسك وما تحب وما تكره وليس ذلك الشيخ أو المرشد .
حياة الأشخاصِ ما هي إلّا كفيلم سينمائي فالأفلامُ السينمائيّة تتنوع فهناك الفيلم العادي الذي لم يترك بصمة خالدة في السينما العالمية وفي نفوس الناس وآخر وشم في ذاكرة السينما العالمية أجمل رسم خالد لا يمكن أن يمحى من ذاكرتها كذلك هي حياة الأشخاص تتنوع فمنهم من ترك إرثا عظيما كصديقنا : سقراط ومنهم من مضى وقضى نحبه ولانعرف عنه شيئا ولله حكمته في تنوع وتفاضل الأشخاص في الأثر الذي يتركونه في هذه الحياة .


واربأْ بوعيك أن يفيق وصيدهُ..
سمكٌ تطافرَ من بحيرةِ نومهِ ..
لمْ يعرفِ التّاريخ شرّ حراسةٍ ..
من أن يكون المرء حارس وهْمهِ
كُن شيخ ذاتك في الحياة ..
ولاتدعْ سُقراط ثانيةً يموتُ بسمّهِ ..

هُنا ينتقلُ الشّاعرُ للوعي ويؤكدُ بأن النوم ليس إلاّ حالة من حالات الوعي المتغيرة عن حالة الإنسان حال استيقاظه ؛ وكأنه يشيرُ  بأن حالة وعي الإنسانِ العميقة  في منامه أفضل وأوسع خيالا من حالته أثناء استيقاظه ؛ ولذا نفهمُ السّبَبَ الذي جَعَلَ الشاعرَ   يطلب عدم الإفاقة من بحيرة الأحلام  والأفكار والخيالات الخصبة وما النوم إلا إعادة تنشيط للفكر و الدماغ .
  ثمّ يعرّج شاعرنا إلى الوهم الذي يسيطرُ على عقلِ الإنسان ويمنعه من فعل الأشياء العظيمة في هذا الحياة وحقّا ((لم يعرِف التّاريخ شرّ حراسةٍ من أن يكون المرء حارس وهمهِ ))  كما قال في سُقراطيّته .
يؤكدُ الشاعر مرّة أخرى على أن يكون المرء شيخاً لذاته في الحياة وأن يستخلص العبر من حياة سقراط بأن لا يقبل الموت بسهولة كما فعل ذلك الفيلسوف اليوناني العظيم .


وخذِ الكتاب بقوّةٍ وكأنّهُ ..
حربٌ تزجّ العقل خارج سلمهِ ..
فالمبدعون بنو الشكوك إذا هم ُ..
انتسبوا ويعترفُ اليقينُ بعقمهِ ..


يؤكد شاعرنا دعوته مرة أخرى  بأن يأخذ المرء نهج التفكير الفلسفي والعقل الحرّ المتساءل  كما فعل سقراط ، دون تردد حتى وإن كلّف الأمر دخول العقل في حرب الأفكار ؛ لأن ذلك مؤداه إلى الشكّ (النبيل) -كما وصفه لاحقا في قصيدته -فكل ّ مبدعٍ في هذه الحياة منتسبٌ لبني الشكوك فلولا ذلك الانتساب الرائع ، لما خرجت معظم الإنجازات الإنسانية الخالدة العظيمة كما أن اليقين والإجابات  الجاهزة  لم تكن  أبدا رفيقاً لأولئك المبدعين ؛  بل و عقم عن إنجابهم .


مُذ نام حرفٌ في حضانةِ صخرةٍ..
نومَ الرّضيعِ على سواعدِ أمّهِ ..
ما اخضرّ بستانُ الحياةِ بمبدعٍ ..
لم ينبت الشكّ النّبيلُ بعظمهِ ..
فخذُ الكتاب ملغّمًا حدّ الرّدى ..
وجعل حياتكَ أن تموتَ بلغمهِ ..


منذُ بدء عصرِ التاريخ وتحديدا منذ أن  نقش ونامت حروف ورسوم الإنسان على الحجر كالنوم العميق للرضيع بين ذراعي أمهِ ، لم يظهر في التاريخ مبدع لم ينبت الشك النبيل بعظمهِ أي ذلك الشكّ الذي يؤدي إلى اكتشاف الحقائق وإظهارها وخوض الأفكار الجديدة واستلهامها وكل  ما فيه خير ومنفعة للإنسانية .
في نهاية القصيدة ثمّة وجه شبه بينها وبين المشهد الختامي لموتِ سقراط .
قال ذات مرّة  :( لن أرفضَ فلسفتي إلى أن ألفظ النفس الأخير ) ؛ إذ أن سقراط آمن بأفكارهِ حتى الموت ، وهكذا يجب على الإنسان أن يؤمن بمبادئ الفكر حتى وإن كانت على حساب موته .
أبدع جاسم في سُقراطيّتهِ الباذخة الفاخرة المدهشة  وخطّ دستورا ذهبيًّا خالدا للمبدعين   و تستحق أن تعلّق على كعبةِ  الفكر في تاريخ أدبنا العربيّ المعاصر ؛  إذ تحملُ معان ودلائل مفتوحة وتتوالد منها الأسئلة تماما كما كان يولّدُ سقراط الأسئلة لدى تلاميذه وما هذه القراءة التأمليّة العابرة إلا محاولة لفهمِها .



حمد الدريهم
٢٨-٥-١٤٣٥هـ
٢٩-٤-٢٠١٤م